ابن عباد الأندلسي..الملك العاشق..
ولقد شربتُ الراح يسطع نورها
والليل قد مدَّ الظلام رداء
حتى تبدَّى البدر في جوزائه
ملكاً تناهى بهجة وبهاء
شاعرٌ وفارسٌ قل أن يجود الزمان بمثله؛ لإخلاصه لمن يُحب (تلك الجارية التي توِّجت أميرة ثم زال عنها ملكها).. كان المُعتمد بن عباد حين آل إليه حكم إشبيلية (سنة461 هـ/1068م)، في الثلاثين من عمره، شابًّا فتيًّا، فارسًا، شجاعًا، شاعرًا مجيدًا، وأميرًا جوادًا، ذا خِلال باهرة، يُحب الأدب ومسامرة أهله.. كان "محمد بن عباد" يتمشى مع صاحبه -ووزيره فيما بعد- ابن عمار عند مرج الفضة. وكان على عكس أبيه شاعرًا رقيق القلب، يختلط بالعامة، وبينما هما يتمشيان عند ضفاف النهر، نظر محمد إلى تموجات النهر بفعل الرياح. وقال: (صنع الريح على الماء زرد..)، وطلب من ابن عمار - وهو شاعر - أن يجيزه (يُكمل ما نظمه)، فتوقف ابن عمار قليلا (يحاول ينظم)، وكان على شاطئ النهر جوار يملأن الماء في جرار فقالت إحداهن: (أي درع لقتالٍ لو جمد). فألتفت المعتمد إلى حيث الصوت فلم تكن الصورة بأقل جمالاً من المنطق. فبهر بها، وكان اسمها "اعتماد"، فسألهم ألها زوج؟ قالوا: لا, فاشتراها من سيدها وأعتقها، ثم تزوجها وولد له منها. ومضى المعتمد على حاله معها فلم يقصر في شيء يجلب السرور إلى نفسها، وقد بلغ من معزته لها أن صنع أبياتا يبدأ كل منها بحرف من حروف اسمها (اعتماد)، وهي
أغائبة الشخص عن ناظري..
وحاضرة في صميم الفؤاد
عليك السلام بقدر الشجون..
ودمع الشئون وقدر السهاد
تملكت مني صعب المرام..
وصادفت مني سهل القياد
مرادي أعياك في كل حين..
فيا ليت أني أعطى مرادي
أقيمي علي العهد ما بيننا..
ولا تستحيلي لطول البعاد
دسست اسمك الحلو في طيه..
وألفت منه حروف اعتماد
.. كانت زوجته اعتماد الرميكية شاعرة كذلك، تجمع إلى جمالها الفاتن البراعة في الشعر والأدب، وكانت أشبيلية حاضرة دولته آية في الروعة والبهاء. رصد قرارة التجربة ونمَّ عن نفس ملحمي طفيف إضافة إلى الطابع القصصي أيضاً، وطبيعي في مثل هذه الحال من الاستغراق الشعوري ألا يكون للفكر حيز كبير في بنية القصيدة، وألا تنطوي القصيدة تبعاً لذلك على المحسنات والسعي إلى الصور ربما يكشف هذا البحر المجزوء بقصر تفعيلاته عن اضطراب الأحوال التي كان الشاعر فيها، ولعل هذه المرحلة الأخيرة من مراحل حياته على قصرها أكثر مراحل حياته عطاء للشعر كان أقل شيء يُهيِّج في نفسه الشوق، ويبعث الذكرى فقد اجتاز يوماً عليه في أسره سرب قطا فأهاج وجده وآثار لواعج الشوق عنده؛ فقال:
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي..
سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
هنيئاً إن لم يفرق جميعها..
ولا ذاق منها البعد من أهلها أهل
... ويلاحظ في شعر المعتمد خلال فترة أسره التي استمرتْ أربعَ سنوات أنه لم يذكرْ هذه الأسباب لا من قريبٍ ولا من بعيد. ويلاحظ أنه كان يكتفي حينما يتحدث عن أسباب محنته بالإشارة إلى أسبابٍ عامةٍ تحصل مع أي فرد من الأفراد، وفي أي زمن من الأزمان، فيقول:
مضى زمنٌ والملك مستأنسٌ به..
وأصبح عنه اليومَ وهو نفورُ
برأيٍ من الدهر المضلل فاسدٍ..
متى صلحتْ للصالحين دهورُ؟
ويقول:
قلتُ: الخطوبُ أذلتني طوارقها..
وكان عزميَ للأعداء طرّاقا
فالسبب عنده رأيٌ فاسدٌ من الدهر المضلل، أدى إلى نفور الملك أو إذلال طوارق الخطوب له. وبذلك يعفي نفسَهُ من التطرق إلى الأسباب الحقيقية الكامنة في واقع الأندلس المعيش والمترسبة في نفوس أمرائها وولاتها.
وفي قصيدة أخرى، يقدِّم سبباً آخر لما حل به؛ ألا وهو الغدرُ:
وأبقى أُسام الذلّ في أرضِ غربةٍ..
وما كنتُ لولا الغدرُ ذاك أُسامُ
دون أن يبيِّن كيف غُدر به ومن هم الغادرون. كأن الكل يغدر بالكل فلا حاجةَ لذكر أسماء ولا لتسجيل أحداث. الغدر ظاهرةٌ وسمةٌ جليةٌ لأبناء ذلك العصر.
أرمدْتَ أم بنجومِكَ الرمدُ؟
قد عاد ضداً كل ما تعدُ
هل في حسابك ما تؤملُهُ؟
أم قد تَصَرّمَ عندك الأمدُ؟
آخرُ صيحات المعتمد كملكٍ وردتْ في قصيدته العينية الشهيرةِ. وبعدها سيصبح -كما سنرى- الملْك والإمارة من الماضي البعيد. ومع هذا التحول والتنازلِ، سنلاحظ أن المعتمد الشاعر سيبقى، وسيبقى إلى ما شاء الله خالداً في محنته وصبره، وخالداً في تسليمه لقضائه وقدره.
نلاحظ من خلال تسلسل الأحداث التي عصفت بأشبيلية، قلعة المعتمد، أن هذه القصيدةَ قيلت في غمرة تلك الأحداث أو هي روايةٌ لها فيما بعد، ووجود الأفعال الماضية فيها التي تصف ما جرى في الزمن القريب، وما صرح به المعتمد نفسُهُ وعبر به عن محنته، وما لحقه من أذى وذلٍّ. يقول: (أجلي تأخر. لم يكن بهواي ذلي والخضوعُ).
آخر قصائده التي كتبها في سجنه قبل أن يسلم الروح أسًى على وداع زوجته وحبيبته (اعتماد) التي شغف بها حبا لدرجة أنه زهد في الجواري الحسان من حوله.. وفيها يقول:
قبرَ الغريب، سقاكَ الرائحُ الغادي..
حقاً، ظفرْتَ بأشلاء ابْن عبادِ
بالحلمِ، بالعلمِ، بالنعمى إذا اتصلتْ..
بالخصب إن أجدبوا، بالريّ للصادي
بالطاعن الضاربِ الرامي إذا اقتتلوا..
بالموت أحمر، بالضرغامة العادي
وماتت الرميكية في أغمات قبل المعتمد بأيام ومات هو بعدها وجدا.
السجنُ خلوةٌ. واختلى المعتمد في سجنه وروحَه. واختلى في روحه وشعرَه، اختلى والشعرَ في خلوة الخلوات، وخلوة الجنازات: بشعره حفر قبرَهُ، وبه دفن نفسَهُ، وبه وقف راثياً، وداعيا بالرحمة.