الجواهري نهر العراق الثالث ومتنبي العصر
حييتُ سفحكِ عن بعدٍ فحَييني..
يادجلة الخير، يا أمَّ البساتين
حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذ به..
لوذ الحمائِم بين الماءِ والطين
يادجلة الخير ِيا نبعاً أفارقه..
على الكراهةِ بين الحِينِ والحينِ
إني وردتُ عُيون الماءِ صافية..
نَبعاً فنبعاً فما كانت لترْويني)).
هنا؛ حيث الدهشة الأخيرة.. هنا؛ عند آخر رمق لعنفوان الشعر.. كمين الكلمة حين يترصدك بسهمه.. بهذا التاريخ 27 يوليو 1977. على الرَّغم مِن أنه كان غياباً لابد منه بعد أرذل العمر، إلا أنه ترك فراغاً لا يُسد، مثلما قيل كان آخر الكبار في "نحت القوافي مِن معادنها"، وكان شاهداً على العصر، والعراقيون في هذه الأيام بالذات بحاجة لجهبذ مثله يتجاوز الجميع إلى العِراق، فهو القائل وليس لنا تكذيب قوافيه: "أنا العراق لساني صوته ودمي/ فراته وفؤادي منه أشطار".
عندما أكتب عن الجواهري لا يهمُّني كيف كانت حياته الخاصة الشخصية، إنما آخذ طبائعه مِن قصائده، فهي المؤثر في المجتمع، أما بقية الأشياء فهي له وبحدود شخصه لا أكثر. أراها مِن السَّذاجة أن تطرب الأذن لعرى قوافي الجواهري ويمنعها أنه قال كذا وتصرف كذا، وهل كان أبو الطيب المتنبي (اغتيل 354هـ) مَلكاً في شؤونه الخاصة؟! وها هو مازال يطرب الأجيال تلو الأجيال، وغدت أبياته أمثالاً سارت بها الرُّكبان، والجواهري متنبي عصره.... ولد الجواهري في بداية القرن العشرين ورحل في آخره، بدأ بالقريض وهو في سن مبكرة. قيل عنه الكثير بدءاً من نابغة الشعر العربي، ومروراً بشاعر العرب الأكبر، وأمير الشعراء بعد شوقي، ووارث الشعر العربي ومتنبي العصر وربّ الشعر، وانتهاءً بألقاب وأوسمة أدبية قلما حصل ويحصل عليها شاعرٌ عربي.
وتعتقد الأغلبية أن للجواهري مدرسة شعرية خاصة تكاد تكون فريدة في الأسلوب والمضمون والشكل؛ فلا يمكن قياسها بالمدارس المعهودة فضلاً عن أنه قد قيل الكثير حول تحديد الاتجاه الشعري لديه، فكلها كانت تصب في واحة الاتفاق على أن مدرسته متميزة فهو آخر شعراء المدرسة البارودية والتقليدية وكان آخر الشعراء الكبار الذين كتبوا قصيدة بشكلها الكلاسيكي. مثلما أحببت الجواهري وهو يحتفي بميلاد الملك فيصل الثَّاني، أحببته أيضاً عندما رثى مؤسس الحزب الشِّيوعي العِراقي يوسف سلمان يوسف (أُعدم 1949)؛ لأن الجواهري تعامل معه كحالم بغد أفضل للعراق، على طريقته إن أخطأت أو أصابت، وكان الشعار الذي خطه لحزبه: "وطن حرٌ وشعب سعيد".. فعلينا التعامل مع قوافي الجواهري حبكة ونغمة، أما الموقف السِّياسي والأيديولوجية، فلم يكن شيوعياً ولا قومياً ولا أي شيء بل كان عراقياً وكفى! قال:
سلامٌ على مثقل بالحديد..
ويشمخ كالقائد الظَّافرِ
كأن القيود على معصميه..
مفاتيح مستقبل زاهرِ
... على الذين يريدون الجواهري للحظة وزمن وموقف، لا لشعره وموهبته الفذة. أنا أطرب لكلِّ ما قاله الجواهري، لثوريين أو رجعيين، مثلما ما زال يُطربنا أبو الطَّيب المتنبي في كل ما قاله بحضرة صاحب حلب سيف الدَّولة الحمداني (ت357هـ). أقول: بل ما بين الجواهري ومعروف عبد الغني الرَّصافي ما نقدمه سلاحاً في الحرب ضد الطائفية؛ فالرصافي المتهم بالطائفية يُقدم الجواهري النَّجفي على نفسه، وهذه سابقة قد لا تحصل بين الشُعراء، عندما قال له، بعد أن نشر الجواهري قصيدة في الرَّصافي محاولاً لفت أنظار الدَّولة آنذاك لهذا الشَّاعر والمثقف، يوم كان على خصومة معها: "أقول لرب الشعر مهدي الجواهري/ إلى كم تناغي بالقوافي السَّواحرِ".. وقال له أيضاً: "بك لا بي أصبح الشعر زاهرا/ وقد كنت قبل اليوم مثلك شاعرًا".
لاشك أن للجواهري مخزوناً ثقافياً خاصًّا تلقاها خلال قرن من حياته وهي البيئة. الكتب والمكتبات.. حدّة الذاكرة وقوتها. ولد محمد مهدي الجواهرى عام 1903م بمدينة النجف الأشرف ونشأ ودرس فى الصحن العلوي. كان من أسرة دينية، كان جده الأعلى الشيخ محمد حسن مرجع الشيعة الإمامية في عهده وكتابه المشهور "جواهر الكلام" الذي اقتبست الأسرة لقبها منه.
قدم الجواهري على القرن العشرين من بيت أسواره الدين والمذهب وأعمدته العلم والثقافة والأدب، ومن مدينة بيئتها الدين وظواهرها التحفظ والالتزام، ومحيطها بحار من كتب الاستدلال والجدل، والفلسفة والأحكام، ورجالها علماء، فقهاء، مراجع التقليد، وشعراء وأدباء، ومن بلد تتكالب عليه القوى الاستعمارية. فهذه الشخصية ملازمة طبعاً لكل أحداث القرن، ولعل الذى أطلق على القرن العشرين بقرن الجواهري لم يكن مبتعداً عن الحقيقة. فهو كان عراقاً وأمة العرب فى قرن. هذا الرجل الشاعر، الثائر، العاشق، الجوال، دخل التاريخ من بابه العريض في بدايات هذا القرن وامتد به العمر الى نهاياته، لكأن الأقدار أرادته أن يكون شاهد عصره المتفرد، يكشف الزمن بشخصه بعد أن صال وجال، وعشق، وكابد وناضل، ونفى وتشرد، عاقر الخمرة، غازل النساء وجاب البلاد وبين كل هذه الحدود كان الشعر هو الأساس. فهو فى تعامله مع مجتمعه كان إنساناً قبل أن يكون شيئاً آخر. لا يخفى على أحد أن الجواهري يندر أن ترى في أشعاره قصائد لم يعتمد فيها على تراثه الثقافي المخزون في ذهنه وفكره، فهو في كل الأحوال قد بنى بنيانه الأدبي على هذه الخلفية الغنية ومطالعة دواوينه خير شاهد على ذلك، فإن الجواهري إن لم يكن حاملاً لتراث يضرب في عمق ألف عام، وإن لم يكن هو البقية الباقية من التراث الأدبي العربي الصحيح على حد قول عميد الأدب العربي طه حسين، ما كان له هذا التسلط والحكم على الحرف والكلمة، وما كانت القافية تنصاع له بخضوع، وما كان الموضوع أو المناسبة التي يريدها لينشد فيها تتجزأ وبتلك السرعة الفائقة لتتحول إلى نظم في ثوب تراثي متزين بزينة العصر والزمان. ولنرى كيف رثى الجواهري الرَّصافي، بعد أربع عشرة سنةً مرت على وفاته، (أي 1959)، وكان قد رثاه أكثر مِن مرة: "لغز الحياة وحَيرة الألباب/ أن يستحيل الفكر محض ترابِ/ أن يصبح القلبُ الذكيُ مفازةً/ جرداء حتى مِن خفوق سرابِ/ ليت السَّماءَ الأرضَ ليت مدارها/ للعبقري به مكان شهاب/ يوما له ويُقال ذاك شعاعه/ لا محض أخبار ومحض كتابِ".
يا ابن الفراتين قد أصغى لك البلدُ..
زَعْماً بأنك فيه الصادحُ الغرِدُ
ما بين جنبيكَ نبعٌ لا قَرارَ له..
من المطامح يستسقي ويَرتفد
يا ابن الفراتين لا تحزن لنازلة..
أغلى من النازلات الحزنُ والكمدُ
فما التأسي إذا لم يَنْفِ عنك أسىً..
وما التجلدُ إن لم ينفعِ الجَلَد.
لقد اكتنز الجواهري في خياله كل ما مر على قومه وبلاده من تعسف وجور من الحاكمين خلال القرون السبعة المظلمة، ورأى مجتمعه الذي يعج بالمشاكل والعقد، فاندفع يصور ذلك ويفهم الجيل الحائر بما يتصوره من مثل وآراء. وطبيعي جداً أن تكون لهذه الخلفية مشارب نهل منها الجواهري، وعوامل كانت لها الأثر البالغ في شعره. يتصف أسلوب الجواهري بالصدق في التعبير والقوة في البيان والحرارة في الإحساس الملتحم بالصور الهادرة كالتيار في النفس، ولكنه يبدو من خلال أفكاره متشائماً حزيناً من الحياة تغلف شعره مسحة من الكآبة والإحساس القاتم الحزين مع نفسية معقدة تنظر إلى كل أمر نظر الفيلسوف الناقد الذي لايرضيه شيء.
رحل بعد أن تمرد وتحدى ودخل معارك كبرى وخاض غمرتها واكتوى بنيران فكان بحق شاهد العصر الذي لم يجامل ولم يُحاب أحداً. وقد ولد الجواهري وتوفي في نفس الشهر، وكان الفارق يوماً واحداً ما بين يوم ميلاده ووفاته. فقد ولد في السادس والعشرين من يوليو عام 1899، وتوفي في السابع والعشرين من يوليو 1997..
في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ..
أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ
قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا..
عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدواتَجري على رِسْلِها الدُنيا ويتبَعُها..
رأيٌ بتعليلِ مَجراها ومُعتقَد.