الجمعة، 28 يونيو 2013

أبو تمام ..الشعر أصدق أنباءه..

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى     ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى       وحنيـنه أبداً لأول منزل.
إذا كان المتنبي قد ملأ الدنيا وشغل الناس، فلم يكن نظيره ونده أبو تمام بأقل منه، وهو الذي ملأ شعره الآفاق، إذ كان صاحب مذهب في الشعر تمخضت عنه العبقرية العربية فولدت في مطلع القرن التاسع عشر وبولادته ولدت قمة- من قمم الأدب. أحد أمراء البيان، ولد بجاسم (من قرى حوران بسورية) ورحل إلى مصر واستقدمه المعتصم إلى بغداد فأجازه وقدمه على شعراء وقته فأقام في العراق ثم ولي بريد الموصل فلم يتم سنتين حتى توفي بها.كان أسمر، طويلاً، فصيحاً، حلو الكلام، فيه تمتمة يسيرة، يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب غير القصائد . واختلف في التفضيل بينه وبين المتنبي والبحتري، له تصانيف، منها فحول الشعراء، وديوان الحماسة، ومختار أشعار القبائل، ونقائض جرير والأخطل، نُسِبَ إليه ولعله للأصمعي كما يرى الميمني.
وذهب مرجليوث في دائرة المعارف إلى أن والد أبي تمام كان نصرانياً يسمى ثادوس، أو ثيودوس، واستبدل الابن هذا الاسم فجعله أوساً بعد اعتناقه الإسلام ووصل نسبه بقبيلة طيء وكان أبوه خماراً في دمشق وعمل هو حائكاً فيها ثمَّ انتقل إلى حمص وبدأ بها حياته الشعرية.. كان أبو تمام حاد الشعور، وهذا سبب من أسباب قوة شخصيته وشدة استعلائه، لدرجة أن كثيرًا مما سنقف عليه من صفات القوة والعنف في شخصية المتنبي ترجعها بعض الدراسات إلى أنّه كان يقلد فيها صفات القوة والعظمة عند أبي تمام. ويمتاز أبو تمام أكثر ما يمتاز بالعمق الذهني الذي لم نر لونه ومزاجه لغيره من شعراء العربية.
عرف أبو تمام عن المعاني السطحية التي لا تهز عاطفة ولا تحرك شوقاً، وغاص وراء الفكرة مهما عمقت، واستنبطها من أغوارها مهما دقت، ساعده على ذلك ذكاؤه الحاد، وفكره الغواص، ومن كان كذلك كان تأثر بالمؤثرات عميقاً، وانفعاله بها قوياً. من ذلك قوله في الحضرمي حينما ماطله عاما وأخلف وعده:                                                                                          
               الفطر والأضحى قد انسلخا ولى          أمل ببابك صائم لم يفطر
               حول، ولم ينتج نداك وإنما                تتوقع الحبلى لتسعة أشهر
               من لى ببحر واحد؟ إغرقك في           بحر أجيش له بسبعة أبحر.
كان أبو تمام يراوح بين هذه وتلك في شعره، فهو آنيا يستمد أفكاره من الواقع الملموس، كما في قصيدته البائية التي قالها في فتح عمورية والتي أشار فيها إلى العقائد السائدة في التنجيم والخرافة، ووصف فيها المعركة وصفاً دقيقاً مستمدًا من الواقع. وآنياً يلجأ إلى الخيال الخصيب فيستوحيه في رثائه لابن الطوسي
تردي ثياب الموت حمرًا فما دجى   لها الليل إلا وهي من سندس خضر
       كأن بني نبهان يوم وفاته                        ويبكي عليه البأس والجود والشعر
       وأنى لهم صبر عليه وقد مضى                   إلى الموت حتى استشهدا: هو والصبر.
طرق أبو تمام أبواب الشعر المختلفة، وبرز في جميعها إلا الهجاء، فقد كان فيه مغلباً. ولم تكن شاعريته في كل هذه الفنون بدرجة واحدة، بل كانت تتفاوت من فن إلى فن، ومن موقف إلى موقف، تفاوتها في القصيدة الواحدة. أما شهرته الأدبية التي أخملت شعراء العصر فقد اكتسبها من فني (المدح والرثاء) حتى قالوا: أبو تمام (مداحة نواحة). أو الرثاء: كان ميدانه العاطفي الأصيل، فإذا كان العطاء يستهوي الشعراء بالمديح فإنّ الحزن يعتصر القلوب ويذيب المرائر فتسيل دموعا ونحييها وقصيدًا. كان أبو تمام من الشعراء المعدودين في إجادة الرثاء كما يقول ابن رشيق، وليس في ابداءات المراثي المولدة مثل قوله:                                                                        
            أصم بك الناعي وإن كان أسمعا          وأصبح معنى الجود بعدك بلقعا.
ويقول أبو القاسم الآمدى: (هو أشعر الناس في المراثي، وليس له فيها أجود من قوله:
ألا إن في كف المنية مهجة   تظل لها عين العلا وهي تدمع
هي النفس إن تبك المكارم فقدها        فمن بين أحشاء المكارم تنزع..
تلاعب أبو تمام بالطباق والمقابلة، كما تلاعب بالكناية والتلميح ومراعاة النظر وهي في شعره أكثر من أن تحصى، غير أن الطباق من بينها كان له النصيب الأوفى، ومن ذلك قوله في فتح عمورية:                                                                                                                                                          
          السيف أصدق أنباء من الكتب                 في حده الحد بين الجد واللعب
          بيض الصفائح لأسود الصحائف في            متونهن جلاء الشك والريب.
. وهذه المؤلفات تدل دلالة واضحة على أن أبا تمام أطال صحبة الشعر والشعراء، ولعل هذا هو ما دعا "الآمدى" وغيره إلى البحث عن سرقات أبي تمام، لأن أبا تمام نتيجة صلته الشديدة بالتراث الشعري، كان تستوقفه المعاني والصور والأخيلة وكان يعمل فيها ذهنه الجبار. ثم يستدرك عليها بما يراه إضافة أو عمقاً أو تصحيحاً، ولعل تروى أبي تمام في فهم الشعر السابق عليه ثم إدراكه لعمق إضافاته هو الذي جعله يقول عن قصائد البيت الآنف الذكر: " لا يستقي من حفير الكتب رونقها، ولم تزل تستقي من بحرها الكتب. الصورة العامة للسيف في شعر أبي تمام تعطي انطباعا بأن هذه الآلة الحربية ليست قوة طائشة تسعى الى البطش الأخرق ولكنه قوة عاقلة تريد خير الإنسان بالتسلط على قوى الشر المادية مجسدة في الأعداد والمعنوية ممثلة في الضلال والغي. لذلك كثيرًا ما شبه الرأي بالسيف حدة ومضاء وسدادا وقد جمع أبو تمام المعنيين في قوله واصفاً أبا دلف العجلي:
سللت لهم سيفين رأيا ومنصلا
وكل كنجم في الدجنة ثاقب.
وفي فتح عمورية بين بلاغة الانتصار وغواية الانتظار هذه القصيدة التي تعتبر من أدب الملاحم ولا ريب، أنشأها أبو تمام خطابًا ثقافياً راسخاً ونصاً حضاريًا بيّنًا، فيه من الفكر والواقع بقدر ما فيه من الفن والأدب. ولئن كان تعامل الأدباء والنقاد معها من زاوية جمالية تروم البلاغة دون الإبلاغ، وتهفو إلى دراسة الإيقاع دون الواقع، فإننا نرى إلى ذلك أوجهاً لا تزال قادرة على استخلاص أبعاد طريفة غير تلك التي قرّ العزم على إخراجها من قبل هذه القصيدة من أدب الملاحم ولا ريب..





























التعليقات

تحميل ... جاري تسجيل الدخول ...
  • مسجل دخولك باسم
لا توجد تعليقات حتى الآن ! كن أول من يرسل تعليقه !

إرسال تعليق جديد

Comments by