الجمعة، 28 يونيو 2013

ناجي..شاعر النيل والأطلال..

یافؤادي رحم الله الهوی
کان صرحاً من خیالٍ فهوی
اسقني واشرب علی أطلاله
واروِ عني طالما الدمع روی
کیف ذاك الحب أمسی خبراً
وحدیثاً من أحادیث الجوی
یقول ناجي عن شعره " هو النافذة التي أطل منها علی الحیاة وأشرف منها علی الأبد وما وراء الأبد . هو الهواء الذي أتنفسه والبلسم الذي داویتُ به جراح نفسي عند عزّ الإساءة هذا هو شعري. بدأ حياته الشعرية حوالي عام 1926 عندما بدأ يترجم بعض أشعار الفريد دي موسيه وتوماس مور شعراً وينشرها في السياسة الأسبوعية، وانضم إلى مدرسة أبولو عام 1932م التي أفرزت نخبة من الشعراء المصريين والعرب استطاعوا تحرير القصيدة العربية الحديثة من الأغلال الكلاسيكية والخيالات والإيقاعات المتوارثة. وقد نهل من الثقافة العربية القديمة فدرس العروض والقوافي وقرأ دواوين المتنبي وابن الرومي وأبي نواس وغيرهم من فحول الشعر العربي، كما نهل من الثقافة الغربية فقرأ قصائد شيلي وبيرون وآخرين من رومانسيي الشعر الغربي. قصته مع الأطلال كانت تجسيدًا لمعاناته وآلامه بالحب. فقد كانت أول تجربة تعمق نظرته البائسة للحياة هي محبته أيام دراسته الثانوية لفتاة كانت زميلته وتعلقه بها فكتب أشهر قصائده عنها فكانت خير تخليد للحب. وتقع القصيدة في أكثر من مائة وثلاثين بيتا في شكل مقاطع كل مقطع يتألف من أربع أبيات أكثر المقاطع منظومة على الرمل. وقد غنّت أم كلثوم مقاطع منها مع التعديل في بعض الألفاظ وضم مقطع من قصيدة أخرى عنوانها الوداع. تميز الشاعر بالنزعة الروحية الأشبه بالصوفية وتبرز في كثير من التعبيرات التي استخدمها مثل " جعلت النسيم زادا لروحي" و "أسكر نفسي".
ناجي کتب عن أعمق التجارب الشعرية مع اتجاهه بالبساطة حیث لا یعرف الزیف في شعره، ویسعی لأن یستمد من إحساسه من الجمال والحیاة ونری تعابیره الخاصة.
جدد ناجي في شکل القصیدة ومضمونها کما نری تجدیده في الموسیقی، في الخیال، في اللفظ وفي الأفکار و الأسالیب. شعر ناجي فيه الأصالة وعمق التجربة ودعوة واضحة للحریة وللوحدة العضویة في القصیدة، وتبدأ القصیدة بانفعال نفسي یستمر هذا الانفعال مع عاطفته حتى نهایة مضمون القصیدة ویجذب القارئ مع عذوبته.
إذا ننظر إلی أشعار ناجي نجد تصاویر الحزن والیأس فيها وکلّها إشاعة الروح الرومانتیكیة الحدیثة وتتمثل فيها شخصیة الشاعر ملیئة بالشکوی والأنّات ودیوانه وراء الغمام خیر شاهدٍ علی هذه السمة في شعره کما یقول الدکتور شوقي ضیف " فقد کان یدمن قرأءة الآثار الغربیة فتعلّق بهذا الاتجاه وظلّ ینمیه ومن أجل ذلك تتّضح شخصیته في شعره تمام الوضوح بجمیع ملامحها العاطفية وقسماتها الوجدانیة وهي شخصیة شاعر مجروح یئن دائماً ویشکو إفلات سعادته منه بصورة محزونة".
عاب الكثير من النقاد على ناجي أنّ تركيزه كان منصبا علي الشعر العاطفي الرومانسي وقصائد الهجر. غير أنّ هناك رأيا آخر يرى أنّ الشاعر لم تجمع كل قصائده فإنتاجه الحقيقي أكبر من الدواوين القليلة المجمعة له.
كان ناجي شاعراً يميل للرومانسية، أي الحب والوحدانية، كما اشتهر بشعره الوجداني. وكان وكيلا لمدرسة أبولو الشعرية وترأس من بعدها رابطة الأدباء في الأربعينيات من القرن العشرين. ترجم إبراهيم ناجي بعض الأشعار عن الفرنسية لبودلير تحت عنوان "أزهار الشر" وترجم عن الإنجليزية رواية "الجريمة والعقاب" لـديستوفسكي، وعن الإيطالية رواية "الموت في إجازة" كما نشر دراسة عن شكسبير وكتب الكثير من الكتب الأدبية مثل "مدينة الأحلام" و "عالم الأسرة". وقام بإصدار مجلة حكيم البيت. ومن أشهر قصائده قصيدة الأطلال التي تغنت بها المطربة أم كلثوم.
واجه ناجي نقداً عنيفاً عند صدور ديوانه الأول، من العقاد وطه حسين معاً، ويرجع هذا إلى ارتباطه بجماعة أبولو وقد وصف طه حسين شعره بأنّه شعر صالونات لا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيأخذه البرد من جوانبه، وقد أزعجه هذا النقد فسافر إلى لندن وهناك دهمته سيارة عابرة فنقل إلى مستشفى سان جورج وقد عاشت هذه المحنة في أعماقه فترة طويلة حتى توفي في 24 من شهر مارس في عام 1953.
رفْرَفَ القلبُ بجنبي كالذبيحْ
وأنا أهتف: يا قلبُ اتّئدْ
فيجيب الدمعُ والماضي الجريحْ
لِمَ عُدنا؟ ليت أنّا لم نعد!
إبراهيم ناجي شاعر النيل أو الأطلال وإن اختلف البعض في شعره سيبقى قصيدة للحب والنيل وبلده.




ناجي..شاعر النيل والأطلال..

یافؤادي رحم الله الهوی
کان صرحاً من خیالٍ فهوی
اسقني واشرب علی أطلاله
واروِ عني طالما الدمع روی
کیف ذاك الحب أمسی خبراً
وحدیثاً من أحادیث الجوی
یقول ناجي عن شعره " هو النافذة التي أطل منها علی الحیاة وأشرف منها علی الأبد وما وراء الأبد . هو الهواء الذي أتنفسه والبلسم الذي داویتُ به جراح نفسي عند عزّ الإساءة هذا هو شعري. بدأ حياته الشعرية حوالي عام 1926 عندما بدأ يترجم بعض أشعار الفريد دي موسيه وتوماس مور شعراً وينشرها في السياسة الأسبوعية، وانضم إلى مدرسة أبولو عام 1932م التي أفرزت نخبة من الشعراء المصريين والعرب استطاعوا تحرير القصيدة العربية الحديثة من الأغلال الكلاسيكية والخيالات والإيقاعات المتوارثة. وقد نهل من الثقافة العربية القديمة فدرس العروض والقوافي وقرأ دواوين المتنبي وابن الرومي وأبي نواس وغيرهم من فحول الشعر العربي، كما نهل من الثقافة الغربية فقرأ قصائد شيلي وبيرون وآخرين من رومانسيي الشعر الغربي. قصته مع الأطلال كانت تجسيدًا لمعاناته وآلامه بالحب. فقد كانت أول تجربة تعمق نظرته البائسة للحياة هي محبته أيام دراسته الثانوية لفتاة كانت زميلته وتعلقه بها فكتب أشهر قصائده عنها فكانت خير تخليد للحب. وتقع القصيدة في أكثر من مائة وثلاثين بيتا في شكل مقاطع كل مقطع يتألف من أربع أبيات أكثر المقاطع منظومة على الرمل. وقد غنّت أم كلثوم مقاطع منها مع التعديل في بعض الألفاظ وضم مقطع من قصيدة أخرى عنوانها الوداع. تميز الشاعر بالنزعة الروحية الأشبه بالصوفية وتبرز في كثير من التعبيرات التي استخدمها مثل " جعلت النسيم زادا لروحي" و "أسكر نفسي".
ناجي کتب عن أعمق التجارب الشعرية مع اتجاهه بالبساطة حیث لا یعرف الزیف في شعره، ویسعی لأن یستمد من إحساسه من الجمال والحیاة ونری تعابیره الخاصة.
جدد ناجي في شکل القصیدة ومضمونها کما نری تجدیده في الموسیقی، في الخیال، في اللفظ وفي الأفکار و الأسالیب. شعر ناجي فيه الأصالة وعمق التجربة ودعوة واضحة للحریة وللوحدة العضویة في القصیدة، وتبدأ القصیدة بانفعال نفسي یستمر هذا الانفعال مع عاطفته حتى نهایة مضمون القصیدة ویجذب القارئ مع عذوبته.
إذا ننظر إلی أشعار ناجي نجد تصاویر الحزن والیأس فيها وکلّها إشاعة الروح الرومانتیكیة الحدیثة وتتمثل فيها شخصیة الشاعر ملیئة بالشکوی والأنّات ودیوانه وراء الغمام خیر شاهدٍ علی هذه السمة في شعره کما یقول الدکتور شوقي ضیف " فقد کان یدمن قرأءة الآثار الغربیة فتعلّق بهذا الاتجاه وظلّ ینمیه ومن أجل ذلك تتّضح شخصیته في شعره تمام الوضوح بجمیع ملامحها العاطفية وقسماتها الوجدانیة وهي شخصیة شاعر مجروح یئن دائماً ویشکو إفلات سعادته منه بصورة محزونة".
عاب الكثير من النقاد على ناجي أنّ تركيزه كان منصبا علي الشعر العاطفي الرومانسي وقصائد الهجر. غير أنّ هناك رأيا آخر يرى أنّ الشاعر لم تجمع كل قصائده فإنتاجه الحقيقي أكبر من الدواوين القليلة المجمعة له.
كان ناجي شاعراً يميل للرومانسية، أي الحب والوحدانية، كما اشتهر بشعره الوجداني. وكان وكيلا لمدرسة أبولو الشعرية وترأس من بعدها رابطة الأدباء في الأربعينيات من القرن العشرين. ترجم إبراهيم ناجي بعض الأشعار عن الفرنسية لبودلير تحت عنوان "أزهار الشر" وترجم عن الإنجليزية رواية "الجريمة والعقاب" لـديستوفسكي، وعن الإيطالية رواية "الموت في إجازة" كما نشر دراسة عن شكسبير وكتب الكثير من الكتب الأدبية مثل "مدينة الأحلام" و "عالم الأسرة". وقام بإصدار مجلة حكيم البيت. ومن أشهر قصائده قصيدة الأطلال التي تغنت بها المطربة أم كلثوم.
واجه ناجي نقداً عنيفاً عند صدور ديوانه الأول، من العقاد وطه حسين معاً، ويرجع هذا إلى ارتباطه بجماعة أبولو وقد وصف طه حسين شعره بأنّه شعر صالونات لا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيأخذه البرد من جوانبه، وقد أزعجه هذا النقد فسافر إلى لندن وهناك دهمته سيارة عابرة فنقل إلى مستشفى سان جورج وقد عاشت هذه المحنة في أعماقه فترة طويلة حتى توفي في 24 من شهر مارس في عام 1953.
رفْرَفَ القلبُ بجنبي كالذبيحْ
وأنا أهتف: يا قلبُ اتّئدْ
فيجيب الدمعُ والماضي الجريحْ
لِمَ عُدنا؟ ليت أنّا لم نعد!
إبراهيم ناجي شاعر النيل أو الأطلال وإن اختلف البعض في شعره سيبقى قصيدة للحب والنيل وبلده.




ناجي..شاعر النيل والأطلال..

یافؤادي رحم الله الهوی
کان صرحاً من خیالٍ فهوی
اسقني واشرب علی أطلاله
واروِ عني طالما الدمع روی
کیف ذاك الحب أمسی خبراً
وحدیثاً من أحادیث الجوی
یقول ناجي عن شعره " هو النافذة التي أطل منها علی الحیاة وأشرف منها علی الأبد وما وراء الأبد . هو الهواء الذي أتنفسه والبلسم الذي داویتُ به جراح نفسي عند عزّ الإساءة هذا هو شعري. بدأ حياته الشعرية حوالي عام 1926 عندما بدأ يترجم بعض أشعار الفريد دي موسيه وتوماس مور شعراً وينشرها في السياسة الأسبوعية، وانضم إلى مدرسة أبولو عام 1932م التي أفرزت نخبة من الشعراء المصريين والعرب استطاعوا تحرير القصيدة العربية الحديثة من الأغلال الكلاسيكية والخيالات والإيقاعات المتوارثة. وقد نهل من الثقافة العربية القديمة فدرس العروض والقوافي وقرأ دواوين المتنبي وابن الرومي وأبي نواس وغيرهم من فحول الشعر العربي، كما نهل من الثقافة الغربية فقرأ قصائد شيلي وبيرون وآخرين من رومانسيي الشعر الغربي. قصته مع الأطلال كانت تجسيدًا لمعاناته وآلامه بالحب. فقد كانت أول تجربة تعمق نظرته البائسة للحياة هي محبته أيام دراسته الثانوية لفتاة كانت زميلته وتعلقه بها فكتب أشهر قصائده عنها فكانت خير تخليد للحب. وتقع القصيدة في أكثر من مائة وثلاثين بيتا في شكل مقاطع كل مقطع يتألف من أربع أبيات أكثر المقاطع منظومة على الرمل. وقد غنّت أم كلثوم مقاطع منها مع التعديل في بعض الألفاظ وضم مقطع من قصيدة أخرى عنوانها الوداع. تميز الشاعر بالنزعة الروحية الأشبه بالصوفية وتبرز في كثير من التعبيرات التي استخدمها مثل " جعلت النسيم زادا لروحي" و "أسكر نفسي".
ناجي کتب عن أعمق التجارب الشعرية مع اتجاهه بالبساطة حیث لا یعرف الزیف في شعره، ویسعی لأن یستمد من إحساسه من الجمال والحیاة ونری تعابیره الخاصة.
جدد ناجي في شکل القصیدة ومضمونها کما نری تجدیده في الموسیقی، في الخیال، في اللفظ وفي الأفکار و الأسالیب. شعر ناجي فيه الأصالة وعمق التجربة ودعوة واضحة للحریة وللوحدة العضویة في القصیدة، وتبدأ القصیدة بانفعال نفسي یستمر هذا الانفعال مع عاطفته حتى نهایة مضمون القصیدة ویجذب القارئ مع عذوبته.
إذا ننظر إلی أشعار ناجي نجد تصاویر الحزن والیأس فيها وکلّها إشاعة الروح الرومانتیكیة الحدیثة وتتمثل فيها شخصیة الشاعر ملیئة بالشکوی والأنّات ودیوانه وراء الغمام خیر شاهدٍ علی هذه السمة في شعره کما یقول الدکتور شوقي ضیف " فقد کان یدمن قرأءة الآثار الغربیة فتعلّق بهذا الاتجاه وظلّ ینمیه ومن أجل ذلك تتّضح شخصیته في شعره تمام الوضوح بجمیع ملامحها العاطفية وقسماتها الوجدانیة وهي شخصیة شاعر مجروح یئن دائماً ویشکو إفلات سعادته منه بصورة محزونة".
عاب الكثير من النقاد على ناجي أنّ تركيزه كان منصبا علي الشعر العاطفي الرومانسي وقصائد الهجر. غير أنّ هناك رأيا آخر يرى أنّ الشاعر لم تجمع كل قصائده فإنتاجه الحقيقي أكبر من الدواوين القليلة المجمعة له.
كان ناجي شاعراً يميل للرومانسية، أي الحب والوحدانية، كما اشتهر بشعره الوجداني. وكان وكيلا لمدرسة أبولو الشعرية وترأس من بعدها رابطة الأدباء في الأربعينيات من القرن العشرين. ترجم إبراهيم ناجي بعض الأشعار عن الفرنسية لبودلير تحت عنوان "أزهار الشر" وترجم عن الإنجليزية رواية "الجريمة والعقاب" لـديستوفسكي، وعن الإيطالية رواية "الموت في إجازة" كما نشر دراسة عن شكسبير وكتب الكثير من الكتب الأدبية مثل "مدينة الأحلام" و "عالم الأسرة". وقام بإصدار مجلة حكيم البيت. ومن أشهر قصائده قصيدة الأطلال التي تغنت بها المطربة أم كلثوم.
واجه ناجي نقداً عنيفاً عند صدور ديوانه الأول، من العقاد وطه حسين معاً، ويرجع هذا إلى ارتباطه بجماعة أبولو وقد وصف طه حسين شعره بأنّه شعر صالونات لا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيأخذه البرد من جوانبه، وقد أزعجه هذا النقد فسافر إلى لندن وهناك دهمته سيارة عابرة فنقل إلى مستشفى سان جورج وقد عاشت هذه المحنة في أعماقه فترة طويلة حتى توفي في 24 من شهر مارس في عام 1953.
رفْرَفَ القلبُ بجنبي كالذبيحْ
وأنا أهتف: يا قلبُ اتّئدْ
فيجيب الدمعُ والماضي الجريحْ
لِمَ عُدنا؟ ليت أنّا لم نعد!
إبراهيم ناجي شاعر النيل أو الأطلال وإن اختلف البعض في شعره سيبقى قصيدة للحب والنيل وبلده.




ابن عباد الأندلسي..الملك العاشق..

ولقد شربتُ الراح يسطع نورها
والليل قد مدَّ الظلام رداء
حتى تبدَّى البدر في جوزائه
ملكاً تناهى بهجة وبهاء
شاعرٌ وفارسٌ قل أن يجود الزمان بمثله؛ لإخلاصه لمن يُحب (تلك الجارية التي توِّجت أميرة ثم زال عنها ملكها).. كان المُعتمد بن عباد حين آل إليه حكم إشبيلية (سنة461 هـ/1068م)، في الثلاثين من عمره، شابًّا فتيًّا، فارسًا، شجاعًا، شاعرًا مجيدًا، وأميرًا جوادًا، ذا خِلال باهرة، يُحب الأدب ومسامرة أهله.. كان "محمد بن عباد" يتمشى مع صاحبه -ووزيره فيما بعد- ابن عمار عند مرج الفضة. وكان على عكس أبيه شاعرًا رقيق القلب، يختلط بالعامة، وبينما هما يتمشيان عند ضفاف النهر، نظر محمد إلى تموجات النهر بفعل الرياح. وقال: (صنع الريح على الماء زرد..)، وطلب من ابن عمار - وهو شاعر - أن يجيزه (يُكمل ما نظمه)، فتوقف ابن عمار قليلا (يحاول ينظم)، وكان على شاطئ النهر جوار يملأن الماء في جرار فقالت إحداهن: (أي درع لقتالٍ لو جمد). فألتفت المعتمد إلى حيث الصوت فلم تكن الصورة بأقل جمالاً من المنطق. فبهر بها، وكان اسمها "اعتماد"، فسألهم ألها زوج؟ قالوا: لا, فاشتراها من سيدها وأعتقها، ثم تزوجها وولد له منها. ومضى المعتمد على حاله معها فلم يقصر في شيء يجلب السرور إلى نفسها، وقد بلغ من معزته لها أن صنع أبياتا يبدأ كل منها بحرف من حروف اسمها (اعتماد)، وهي
أغائبة الشخص عن ناظري..
وحاضرة في صميم الفؤاد
عليك السلام بقدر الشجون..
ودمع الشئون وقدر السهاد
تملكت مني صعب المرام..
وصادفت مني سهل القياد
مرادي أعياك في كل حين..
فيا ليت أني أعطى مرادي
أقيمي علي العهد ما بيننا..
ولا تستحيلي لطول البعاد
دسست اسمك الحلو في طيه..
وألفت منه حروف اعتماد
.. كانت زوجته اعتماد الرميكية شاعرة كذلك، تجمع إلى جمالها الفاتن البراعة في الشعر والأدب، وكانت أشبيلية حاضرة دولته آية في الروعة والبهاء. رصد قرارة التجربة ونمَّ عن نفس ملحمي طفيف إضافة إلى الطابع القصصي أيضاً، وطبيعي في مثل هذه الحال من الاستغراق الشعوري ألا يكون للفكر حيز كبير في بنية القصيدة، وألا تنطوي القصيدة تبعاً لذلك على المحسنات والسعي إلى الصور ربما يكشف هذا البحر المجزوء بقصر تفعيلاته عن اضطراب الأحوال التي كان الشاعر فيها، ولعل هذه المرحلة الأخيرة من مراحل حياته على قصرها أكثر مراحل حياته عطاء للشعر كان أقل شيء يُهيِّج في نفسه الشوق، ويبعث الذكرى فقد اجتاز يوماً عليه في أسره سرب قطا فأهاج وجده وآثار لواعج الشوق عنده؛ فقال:
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي..
سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
هنيئاً إن لم يفرق جميعها..
ولا ذاق منها البعد من أهلها أهل
... ويلاحظ في شعر المعتمد خلال فترة أسره التي استمرتْ أربعَ سنوات أنه لم يذكرْ هذه الأسباب لا من قريبٍ ولا من بعيد. ويلاحظ أنه كان يكتفي حينما يتحدث عن أسباب محنته بالإشارة إلى أسبابٍ عامةٍ تحصل مع أي فرد من الأفراد، وفي أي زمن من الأزمان، فيقول:
مضى زمنٌ والملك مستأنسٌ به..
وأصبح عنه اليومَ وهو نفورُ
برأيٍ من الدهر المضلل فاسدٍ..
متى صلحتْ للصالحين دهورُ؟
ويقول:
قلتُ: الخطوبُ أذلتني طوارقها..
وكان عزميَ للأعداء طرّاقا
فالسبب عنده رأيٌ فاسدٌ من الدهر المضلل، أدى إلى نفور الملك أو إذلال طوارق الخطوب له. وبذلك يعفي نفسَهُ من التطرق إلى الأسباب الحقيقية الكامنة في واقع الأندلس المعيش والمترسبة في نفوس أمرائها وولاتها.
وفي قصيدة أخرى، يقدِّم سبباً آخر لما حل به؛ ألا وهو الغدرُ:
وأبقى أُسام الذلّ في أرضِ غربةٍ..
وما كنتُ لولا الغدرُ ذاك أُسامُ
دون أن يبيِّن كيف غُدر به ومن هم الغادرون. كأن الكل يغدر بالكل فلا حاجةَ لذكر أسماء ولا لتسجيل أحداث. الغدر ظاهرةٌ وسمةٌ جليةٌ لأبناء ذلك العصر.
أرمدْتَ أم بنجومِكَ الرمدُ؟
قد عاد ضداً كل ما تعدُ
هل في حسابك ما تؤملُهُ؟
أم قد تَصَرّمَ عندك الأمدُ؟
آخرُ صيحات المعتمد كملكٍ وردتْ في قصيدته العينية الشهيرةِ. وبعدها سيصبح -كما سنرى- الملْك والإمارة من الماضي البعيد. ومع هذا التحول والتنازلِ، سنلاحظ أن المعتمد الشاعر سيبقى، وسيبقى إلى ما شاء الله خالداً في محنته وصبره، وخالداً في تسليمه لقضائه وقدره.
نلاحظ من خلال تسلسل الأحداث التي عصفت بأشبيلية، قلعة المعتمد، أن هذه القصيدةَ قيلت في غمرة تلك الأحداث أو هي روايةٌ لها فيما بعد، ووجود الأفعال الماضية فيها التي تصف ما جرى في الزمن القريب، وما صرح به المعتمد نفسُهُ وعبر به عن محنته، وما لحقه من أذى وذلٍّ. يقول: (أجلي تأخر. لم يكن بهواي ذلي والخضوعُ).
آخر قصائده التي كتبها في سجنه قبل أن يسلم الروح أسًى على وداع زوجته وحبيبته (اعتماد) التي شغف بها حبا لدرجة أنه زهد في الجواري الحسان من حوله.. وفيها يقول:
قبرَ الغريب، سقاكَ الرائحُ الغادي..
حقاً، ظفرْتَ بأشلاء ابْن عبادِ
بالحلمِ، بالعلمِ، بالنعمى إذا اتصلتْ..
بالخصب إن أجدبوا، بالريّ للصادي
بالطاعن الضاربِ الرامي إذا اقتتلوا..
بالموت أحمر، بالضرغامة العادي
وماتت الرميكية في أغمات قبل المعتمد بأيام ومات هو بعدها وجدا.

السجنُ خلوةٌ. واختلى المعتمد في سجنه وروحَه. واختلى في روحه وشعرَه، اختلى والشعرَ في خلوة الخلوات، وخلوة الجنازات: بشعره حفر قبرَهُ، وبه دفن نفسَهُ، وبه وقف راثياً، وداعيا بالرحمة.

الجواهري نهر العراق الثالث ومتنبي العصر

حييتُ سفحكِ عن بعدٍ فحَييني..

يادجلة الخير، يا أمَّ البساتين
حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذ به..
لوذ الحمائِم بين الماءِ والطين
يادجلة الخير ِيا نبعاً أفارقه..
على الكراهةِ بين الحِينِ والحينِ
إني وردتُ عُيون الماءِ صافية..
نَبعاً فنبعاً فما كانت لترْويني)).
هنا؛ حيث الدهشة الأخيرة.. هنا؛ عند آخر رمق لعنفوان الشعر.. كمين الكلمة حين يترصدك بسهمه.. بهذا التاريخ 27 يوليو 1977. على الرَّغم مِن أنه كان غياباً لابد منه بعد أرذل العمر، إلا أنه ترك فراغاً لا يُسد، مثلما قيل كان آخر الكبار في "نحت القوافي مِن معادنها"، وكان شاهداً على العصر، والعراقيون في هذه الأيام بالذات بحاجة لجهبذ مثله يتجاوز الجميع إلى العِراق، فهو القائل وليس لنا تكذيب قوافيه: "أنا العراق لساني صوته ودمي/ فراته وفؤادي منه أشطار".
عندما أكتب عن الجواهري لا يهمُّني كيف كانت حياته الخاصة الشخصية، إنما آخذ طبائعه مِن قصائده، فهي المؤثر في المجتمع، أما بقية الأشياء فهي له وبحدود شخصه لا أكثر. أراها مِن السَّذاجة أن تطرب الأذن لعرى قوافي الجواهري ويمنعها أنه قال كذا وتصرف كذا، وهل كان أبو الطيب المتنبي (اغتيل 354هـ) مَلكاً في شؤونه الخاصة؟! وها هو مازال يطرب الأجيال تلو الأجيال، وغدت أبياته أمثالاً سارت بها الرُّكبان، والجواهري متنبي عصره.
... ولد الجواهري في بداية القرن العشرين ورحل في آخره، بدأ بالقريض وهو في سن مبكرة. قيل عنه الكثير بدءاً من نابغة الشعر العربي، ومروراً بشاعر العرب الأكبر، وأمير الشعراء بعد شوقي، ووارث الشعر العربي ومتنبي العصر وربّ الشعر، وانتهاءً بألقاب وأوسمة أدبية قلما حصل ويحصل عليها شاعرٌ عربي.
وتعتقد الأغلبية أن للجواهري مدرسة شعرية خاصة تكاد تكون فريدة في الأسلوب والمضمون والشكل؛ فلا يمكن قياسها بالمدارس المعهودة فضلاً عن أنه قد قيل الكثير حول تحديد الاتجاه الشعري لديه، فكلها كانت تصب في واحة الاتفاق على أن مدرسته متميزة فهو آخر شعراء المدرسة البارودية والتقليدية وكان آخر الشعراء الكبار الذين كتبوا قصيدة بشكلها الكلاسيكي. مثلما أحببت الجواهري وهو يحتفي بميلاد الملك فيصل الثَّاني، أحببته أيضاً عندما رثى مؤسس الحزب الشِّيوعي العِراقي يوسف سلمان يوسف (أُعدم 1949)؛ لأن الجواهري تعامل معه كحالم بغد أفضل للعراق، على طريقته إن أخطأت أو أصابت، وكان الشعار الذي خطه لحزبه: "وطن حرٌ وشعب سعيد".. فعلينا التعامل مع قوافي الجواهري حبكة ونغمة، أما الموقف السِّياسي والأيديولوجية، فلم يكن شيوعياً ولا قومياً ولا أي شيء بل كان عراقياً وكفى! قال:
سلامٌ على مثقل بالحديد..
ويشمخ كالقائد الظَّافرِ
كأن القيود على معصميه..
مفاتيح مستقبل زاهرِ
... على الذين يريدون الجواهري للحظة وزمن وموقف، لا لشعره وموهبته الفذة. أنا أطرب لكلِّ ما قاله الجواهري، لثوريين أو رجعيين، مثلما ما زال يُطربنا أبو الطَّيب المتنبي في كل ما قاله بحضرة صاحب حلب سيف الدَّولة الحمداني (ت357هـ). أقول: بل ما بين الجواهري ومعروف عبد الغني الرَّصافي ما نقدمه سلاحاً في الحرب ضد الطائفية؛ فالرصافي المتهم بالطائفية يُقدم الجواهري النَّجفي على نفسه، وهذه سابقة قد لا تحصل بين الشُعراء، عندما قال له، بعد أن نشر الجواهري قصيدة في الرَّصافي محاولاً لفت أنظار الدَّولة آنذاك لهذا الشَّاعر والمثقف، يوم كان على خصومة معها: "أقول لرب الشعر مهدي الجواهري/ إلى كم تناغي بالقوافي السَّواحرِ".. وقال له أيضاً: "بك لا بي أصبح الشعر زاهرا/ وقد كنت قبل اليوم مثلك شاعرًا".
لاشك أن للجواهري مخزوناً ثقافياً خاصًّا تلقاها خلال قرن من حياته وهي البيئة. الكتب والمكتبات.. حدّة الذاكرة وقوتها. ولد محمد مهدي الجواهرى عام 1903م بمدينة النجف الأشرف ونشأ ودرس فى الصحن العلوي. كان من أسرة دينية، كان جده الأعلى الشيخ محمد حسن مرجع الشيعة الإمامية في عهده وكتابه المشهور "جواهر الكلام" الذي اقتبست الأسرة لقبها منه.
قدم الجواهري على القرن العشرين من بيت أسواره الدين والمذهب وأعمدته العلم والثقافة والأدب، ومن مدينة بيئتها الدين وظواهرها التحفظ والالتزام، ومحيطها بحار من كتب الاستدلال والجدل، والفلسفة والأحكام، ورجالها علماء، فقهاء، مراجع التقليد، وشعراء وأدباء، ومن بلد تتكالب عليه القوى الاستعمارية. فهذه الشخصية ملازمة طبعاً لكل أحداث القرن، ولعل الذى أطلق على القرن العشرين بقرن الجواهري لم يكن مبتعداً عن الحقيقة. فهو كان عراقاً وأمة العرب فى قرن. هذا الرجل الشاعر، الثائر، العاشق، الجوال، دخل التاريخ من بابه العريض في بدايات هذا القرن وامتد به العمر الى نهاياته، لكأن الأقدار أرادته أن يكون شاهد عصره المتفرد، يكشف الزمن بشخصه بعد أن صال وجال، وعشق، وكابد وناضل، ونفى وتشرد، عاقر الخمرة، غازل النساء وجاب البلاد وبين كل هذه الحدود كان الشعر هو الأساس. فهو فى تعامله مع مجتمعه كان إنساناً قبل أن يكون شيئاً آخر. لا يخفى على أحد أن الجواهري يندر أن ترى في أشعاره قصائد لم يعتمد فيها على تراثه الثقافي المخزون في ذهنه وفكره، فهو في كل الأحوال قد بنى بنيانه الأدبي على هذه الخلفية الغنية ومطالعة دواوينه خير شاهد على ذلك، فإن الجواهري إن لم يكن حاملاً لتراث يضرب في عمق ألف عام، وإن لم يكن هو البقية الباقية من التراث الأدبي العربي الصحيح على حد قول عميد الأدب العربي طه حسين، ما كان له هذا التسلط والحكم على الحرف والكلمة، وما كانت القافية تنصاع له بخضوع، وما كان الموضوع أو المناسبة التي يريدها لينشد فيها تتجزأ وبتلك السرعة الفائقة لتتحول إلى نظم في ثوب تراثي متزين بزينة العصر والزمان. ولنرى كيف رثى الجواهري الرَّصافي، بعد أربع عشرة سنةً مرت على وفاته، (أي 1959)، وكان قد رثاه أكثر مِن مرة: "لغز الحياة وحَيرة الألباب/ أن يستحيل الفكر محض ترابِ/ أن يصبح القلبُ الذكيُ مفازةً/ جرداء حتى مِن خفوق سرابِ/ ليت السَّماءَ الأرضَ ليت مدارها/ للعبقري به مكان شهاب/ يوما له ويُقال ذاك شعاعه/ لا محض أخبار ومحض كتابِ".
يا ابن الفراتين قد أصغى لك البلدُ..
زَعْماً بأنك فيه الصادحُ الغرِدُ
ما بين جنبيكَ نبعٌ لا قَرارَ له..
من المطامح يستسقي ويَرتفد
يا ابن الفراتين لا تحزن لنازلة..
أغلى من النازلات الحزنُ والكمدُ
فما التأسي إذا لم يَنْفِ عنك أسىً..
وما التجلدُ إن لم ينفعِ الجَلَد.
لقد اكتنز الجواهري في خياله كل ما مر على قومه وبلاده من تعسف وجور من الحاكمين خلال القرون السبعة المظلمة، ورأى مجتمعه الذي يعج بالمشاكل والعقد، فاندفع يصور ذلك ويفهم الجيل الحائر بما يتصوره من مثل وآراء. وطبيعي جداً أن تكون لهذه الخلفية مشارب نهل منها الجواهري، وعوامل كانت لها الأثر البالغ في شعره. يتصف أسلوب الجواهري بالصدق في التعبير والقوة في البيان والحرارة في الإحساس الملتحم بالصور الهادرة كالتيار في النفس، ولكنه يبدو من خلال أفكاره متشائماً حزيناً من الحياة تغلف شعره مسحة من الكآبة والإحساس القاتم الحزين مع نفسية معقدة تنظر إلى كل أمر نظر الفيلسوف الناقد الذي لايرضيه شيء.
رحل بعد أن تمرد وتحدى ودخل معارك كبرى وخاض غمرتها واكتوى بنيران فكان بحق شاهد العصر الذي لم يجامل ولم يُحاب أحداً. وقد ولد الجواهري وتوفي في نفس الشهر، وكان الفارق يوماً واحداً ما بين يوم ميلاده ووفاته. فقد ولد في السادس والعشرين من يوليو عام 1899، وتوفي في السابع والعشرين من يوليو 1997..‏
في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ..
أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ
قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا..
عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا
تَجري على رِسْلِها الدُنيا ويتبَعُها..
رأيٌ بتعليلِ مَجراها ومُعتقَد.

أبو تمام ..الشعر أصدق أنباءه..

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى     ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى       وحنيـنه أبداً لأول منزل.
إذا كان المتنبي قد ملأ الدنيا وشغل الناس، فلم يكن نظيره ونده أبو تمام بأقل منه، وهو الذي ملأ شعره الآفاق، إذ كان صاحب مذهب في الشعر تمخضت عنه العبقرية العربية فولدت في مطلع القرن التاسع عشر وبولادته ولدت قمة- من قمم الأدب. أحد أمراء البيان، ولد بجاسم (من قرى حوران بسورية) ورحل إلى مصر واستقدمه المعتصم إلى بغداد فأجازه وقدمه على شعراء وقته فأقام في العراق ثم ولي بريد الموصل فلم يتم سنتين حتى توفي بها.كان أسمر، طويلاً، فصيحاً، حلو الكلام، فيه تمتمة يسيرة، يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب غير القصائد . واختلف في التفضيل بينه وبين المتنبي والبحتري، له تصانيف، منها فحول الشعراء، وديوان الحماسة، ومختار أشعار القبائل، ونقائض جرير والأخطل، نُسِبَ إليه ولعله للأصمعي كما يرى الميمني.
وذهب مرجليوث في دائرة المعارف إلى أن والد أبي تمام كان نصرانياً يسمى ثادوس، أو ثيودوس، واستبدل الابن هذا الاسم فجعله أوساً بعد اعتناقه الإسلام ووصل نسبه بقبيلة طيء وكان أبوه خماراً في دمشق وعمل هو حائكاً فيها ثمَّ انتقل إلى حمص وبدأ بها حياته الشعرية.. كان أبو تمام حاد الشعور، وهذا سبب من أسباب قوة شخصيته وشدة استعلائه، لدرجة أن كثيرًا مما سنقف عليه من صفات القوة والعنف في شخصية المتنبي ترجعها بعض الدراسات إلى أنّه كان يقلد فيها صفات القوة والعظمة عند أبي تمام. ويمتاز أبو تمام أكثر ما يمتاز بالعمق الذهني الذي لم نر لونه ومزاجه لغيره من شعراء العربية.
عرف أبو تمام عن المعاني السطحية التي لا تهز عاطفة ولا تحرك شوقاً، وغاص وراء الفكرة مهما عمقت، واستنبطها من أغوارها مهما دقت، ساعده على ذلك ذكاؤه الحاد، وفكره الغواص، ومن كان كذلك كان تأثر بالمؤثرات عميقاً، وانفعاله بها قوياً. من ذلك قوله في الحضرمي حينما ماطله عاما وأخلف وعده:                                                                                          
               الفطر والأضحى قد انسلخا ولى          أمل ببابك صائم لم يفطر
               حول، ولم ينتج نداك وإنما                تتوقع الحبلى لتسعة أشهر
               من لى ببحر واحد؟ إغرقك في           بحر أجيش له بسبعة أبحر.
كان أبو تمام يراوح بين هذه وتلك في شعره، فهو آنيا يستمد أفكاره من الواقع الملموس، كما في قصيدته البائية التي قالها في فتح عمورية والتي أشار فيها إلى العقائد السائدة في التنجيم والخرافة، ووصف فيها المعركة وصفاً دقيقاً مستمدًا من الواقع. وآنياً يلجأ إلى الخيال الخصيب فيستوحيه في رثائه لابن الطوسي
تردي ثياب الموت حمرًا فما دجى   لها الليل إلا وهي من سندس خضر
       كأن بني نبهان يوم وفاته                        ويبكي عليه البأس والجود والشعر
       وأنى لهم صبر عليه وقد مضى                   إلى الموت حتى استشهدا: هو والصبر.
طرق أبو تمام أبواب الشعر المختلفة، وبرز في جميعها إلا الهجاء، فقد كان فيه مغلباً. ولم تكن شاعريته في كل هذه الفنون بدرجة واحدة، بل كانت تتفاوت من فن إلى فن، ومن موقف إلى موقف، تفاوتها في القصيدة الواحدة. أما شهرته الأدبية التي أخملت شعراء العصر فقد اكتسبها من فني (المدح والرثاء) حتى قالوا: أبو تمام (مداحة نواحة). أو الرثاء: كان ميدانه العاطفي الأصيل، فإذا كان العطاء يستهوي الشعراء بالمديح فإنّ الحزن يعتصر القلوب ويذيب المرائر فتسيل دموعا ونحييها وقصيدًا. كان أبو تمام من الشعراء المعدودين في إجادة الرثاء كما يقول ابن رشيق، وليس في ابداءات المراثي المولدة مثل قوله:                                                                        
            أصم بك الناعي وإن كان أسمعا          وأصبح معنى الجود بعدك بلقعا.
ويقول أبو القاسم الآمدى: (هو أشعر الناس في المراثي، وليس له فيها أجود من قوله:
ألا إن في كف المنية مهجة   تظل لها عين العلا وهي تدمع
هي النفس إن تبك المكارم فقدها        فمن بين أحشاء المكارم تنزع..
تلاعب أبو تمام بالطباق والمقابلة، كما تلاعب بالكناية والتلميح ومراعاة النظر وهي في شعره أكثر من أن تحصى، غير أن الطباق من بينها كان له النصيب الأوفى، ومن ذلك قوله في فتح عمورية:                                                                                                                                                          
          السيف أصدق أنباء من الكتب                 في حده الحد بين الجد واللعب
          بيض الصفائح لأسود الصحائف في            متونهن جلاء الشك والريب.
. وهذه المؤلفات تدل دلالة واضحة على أن أبا تمام أطال صحبة الشعر والشعراء، ولعل هذا هو ما دعا "الآمدى" وغيره إلى البحث عن سرقات أبي تمام، لأن أبا تمام نتيجة صلته الشديدة بالتراث الشعري، كان تستوقفه المعاني والصور والأخيلة وكان يعمل فيها ذهنه الجبار. ثم يستدرك عليها بما يراه إضافة أو عمقاً أو تصحيحاً، ولعل تروى أبي تمام في فهم الشعر السابق عليه ثم إدراكه لعمق إضافاته هو الذي جعله يقول عن قصائد البيت الآنف الذكر: " لا يستقي من حفير الكتب رونقها، ولم تزل تستقي من بحرها الكتب. الصورة العامة للسيف في شعر أبي تمام تعطي انطباعا بأن هذه الآلة الحربية ليست قوة طائشة تسعى الى البطش الأخرق ولكنه قوة عاقلة تريد خير الإنسان بالتسلط على قوى الشر المادية مجسدة في الأعداد والمعنوية ممثلة في الضلال والغي. لذلك كثيرًا ما شبه الرأي بالسيف حدة ومضاء وسدادا وقد جمع أبو تمام المعنيين في قوله واصفاً أبا دلف العجلي:
سللت لهم سيفين رأيا ومنصلا
وكل كنجم في الدجنة ثاقب.
وفي فتح عمورية بين بلاغة الانتصار وغواية الانتظار هذه القصيدة التي تعتبر من أدب الملاحم ولا ريب، أنشأها أبو تمام خطابًا ثقافياً راسخاً ونصاً حضاريًا بيّنًا، فيه من الفكر والواقع بقدر ما فيه من الفن والأدب. ولئن كان تعامل الأدباء والنقاد معها من زاوية جمالية تروم البلاغة دون الإبلاغ، وتهفو إلى دراسة الإيقاع دون الواقع، فإننا نرى إلى ذلك أوجهاً لا تزال قادرة على استخلاص أبعاد طريفة غير تلك التي قرّ العزم على إخراجها من قبل هذه القصيدة من أدب الملاحم ولا ريب..





























أمير الشعراء..أحمد شوقي

سجا الليل حتى هاج لي والهوى وما البيد إلا الليل والشعر والحب
ملأت سماء البيد عشقًا وأرضها وحملت وحدي ذلك العشق يا رب
ألمّ على أبيات ليلى بيَ الهوى وما غيرَ أبياتي دليل ولا ركب
وباتت خيامي خطوةً من خيامها فلم يشفني منها جوار ولا قرب...



يقول أحمد شوقي أمير الشعراء عن أصله: إنه عربي، وتركي، ويوناني، وشركسي، أمَّا ولادته فكانت في مصر، أي إنه سليلُ أصول أربعة، وقد جعله هذا الاختلاط دائم التأرجح بين العرب والأتراك، وبين الحاكم والمحكوم، أمَّا ثقافته فكانت عربيَّة وتركيَّة وفرنسيَّة، وقد استطاع الاطلاع على الشعر العربي والتركي والأوربي، مما جعله يستفيد من مختلف التيارات الشعريَّة..
ولد شوقي في القاهرة عام 1868 في أسرة موسرة متصلة بقصر الخديوي، أخذته جدته لأمه من المهد، وكفلته لوالديه، وحين بلغ الرابعة من عمره، أدخل كتاب الشيخ صالح– بحي السيدة زينب – ثم مدرسة المبتديان الابتدائية، فالمدرسة التجهيزية (الثانوية) حيث حصل على المجانية كمكافأة على تفوقه، وحين أتمّ دراسته الثانوية دخل مدرسة الحقوق، وبعد أن درس بها عامين حصل بعدها على الشهادة النهائية في الترجمة. وما أن نال شوقي شهادته حتى عينه الخديوي، ثمّ أوفده بعد عام لدراسة الحقوق في فرنسا، حيث أقام فيها ثلاثة أعوام، حصل بعدها على الشهادة النهائية عام 1893. أمر الخديوي شوقي بأن يبقى في باريس ستة أشهر أخرى للإطلاع على ثقافتها وفنونها. وعاد شوقي إلى مصر أوائل سنة 1894 فضمه توفيق إلى حاشيته. سافر إلى جنيف ممثلاً لمصر في مؤتمر المستشرقين. ولما مات توفيق وولي عباس كان شوقي شاعره المقرب وأنيس مجلسه ورفيق رحلاته، وأصدر الجزء الأول من الشوقيات الذي يحمل تاريخ سنة 1898 – وتاريخ صدوره الحقيقي سنة 1890.. نفاه الإنجليز إلى الأندلس سنة 1914 بعد أن اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى، وفرض الإنجليز حمايتهم على مصر 1920. عاد من المنفى في أوائل سنة 1920 وبويع أميراً للشعراء سنة 1927. وفي سنة 1927م - والتي تمَّ فيها إعادة طبع ديوانه "الشوقيات"- بايعه على إمارة الشعر شعراء العرب؛ مثل: حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وشبلي الملاط، وأمين نخلة.. وغيرهم، ويومَها ألقى حافظ إبراهيم القصيدة التي جاء فيها:
أميرَ القوافي قدْ أتيتُ مبايعًا
وَهَذِي وُفُودُ الشرقِ قد بايعتْ معِي
عندما سمحت السلطات الإنجليزية للشاعر أحمد شوقي بالعودة إلى مصر في سنة 1920، أصبح بعدها شاعر الشعب، بعدما كان شاعر السلالة الخديوية‍.
وتكمن أهمية شوقي في أنّه جاء بعد الشاعر المصري محمود سامي البارودي (1839- 1904)، حاملاً مشعل التجديد عند تخوم مملكة الشعر العربي المعاصر، معبِّرًا عن تجربته الخاصَّة، وتجربة عصره، ممهِّدًا الطريق أمام شعراء العرب الجُدُدِ، الذين ساهموا مساهمة فعَّالة في تطوير الشعر العربي:

لقد لامني يا هندُ في الحب لائمٌ
مُحِبٌّ إذا عُدَّ الصِّحابُ حبيبُ
فما هو بالواشي على مذهب الهوى
ولا هو في شَرع الوداد مُريب
وصفتُ له مَن أَنتِ، ثم جرى لنا
حديثٌ يَهُمُّ العاشقين عجيب
وقلت له: صبراً ؛ فكلُّ أَخي هَوى
على يَدِ مَنْ يهْوى غداً سيتوب
ويُلاحظ بعضنا أنّ أمير الشعراء أحمد شوقي يربط بين أركان الإسلام والخليفة العثماني، فكلَّما تمسك الحاكم بالإسلام، كانت قوَّته ونصره، فشخص الخليفة عنده يبدو رجل دين ودولة في آن واحد، قادر على إجادة التدبير السياسي للحكم، ومحقِّقًا المثل الأعلى والقدوة الطيبة لشعبه من خلال العبادات وأداء الفرائض وإقامة الشعائر؛ ولذا نلاحظ أنّ شعر شوقي المدحي عبارة عن لوحات تصويرية، تجمع بين القيادة والعبادة، ولم يكن نجاح الخليفة في قيادته إلاَّ نتيجةً طبيعيَّة لتمسكه بالشعائر؛ بل إن تبني قضايا الدين والدفاع عنها تتمثَّل في قدرة الخليفة على أداء هذه الشعائر والدفاع عن الإسلام. غير أنَّ إسلاميّات أحمد شوقي تظهر أكثر في المدائح النبويَّة، تلك المدائح التي كانت تطول حتى تصل إلى (كمٍّ) شعري هائل، وتعود أهمِّيَّة المدائح بوجه خاصٍّ إلى أنّها كانت تتِّجه إلى الرسول بكل ما في شخصيته من عظمة وقدوة حسنة ورجاء منشود؛ لذلك لم تكن المدائح تركِّز على الجانب الديني وحده، وإنما على الجانب الآخر السياسي على اعتبار أنَّ الرسول ممثِّل الدنيا والدين، وعلى ذلك، فإن مديح الرسول - فضلاً عن تعظيمه- كان يحتوي على كثير من أمور الحياة والحكم، إنه حين يُشير في إحدى هذه القصائد إلى ميلاد الرسول والآيات التي وضحت في الكون حينئذ، يضيف إلى ذلك كله معانيَ جديدة.
ويلاحظ أن محاكاة شوقي للبوصيري تصل إلى حدٍّ بعيد، إلى درجة التوسُّع في خصال الرسول وتبيين مكانته عند الله بكل فخر وخير، كما يتبعه في تسلسل الأحداث للوصول منها إلى العبرة، وقد بدا واضحًا اهتمامه خاصَّة بتشبيه الرسول بالعلم وإنْ بدا التشبيه عند شوقي يتَّخذ شكل المقتدي به، وشبَّهه بالبدر في شكل أكثر وضوحًا، لنقرأ:
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكُهُ
والرسل في المسجد الأقصى على قدمِ
لما خطرت به التفُّوا بسيِّدهم
كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
أمَّا (الهمزية النبوية) التي يقول فيها شوقي:
وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ
وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ
الروحُ وَالمَلأُ المَلائِكُ حَولَهُ
لِلدينِ وَالدُنيا بِهِ بُشَراءُ

في هذه القصيدة يصل أحمد شوقي إلى درجة عالية في المدح النبوي، ويُلاحَظ أنَّ البوصيري وشوقي يتَّفقان في الأغراض، والاتفاق هنا في وحدة الموضوع لا يخفى؛ ولكن شوقي يختلف عن البوصيري بمثل ما اختلف عنه في أشياء أخرى إذ يختصّ بالحديث المستفيض حول خصائص الإسلام، وحكمه ومنهجه في سبيل الإصلاح، ولا بأس أنَّ محاكاة شوقي للبوصيري تُجاوز المديح إلى الصور والموسيقى والوزن والقافية والعبارات والتراكيب، كذلك في الأغراض وفي التأثُّر بالقرآن، وما إلى ذلك من صور المدح والشفاعة، وهذه المعاني لا تكثر في (البردة) و(الهمزية) فقط، بل تمتدُّ إلى عديد من قصائده الأخرى في هذا المجال، وهو ما يتأكَّد أكثر في شعر المناسبات في الإسلام. وعندما مات الإمام الشيخ محمد عبده سنة 1905 وقف على القبر سبعة من الشعراء يلقون قصائدهم، أرسل شوقي ثلاثة أبيات لتلقى على قبر الإمام، يقول فيها:

مفسر أي الله بالأمس بيننا
قم اليوم فسّر للورى آية الموت
رحمت مصير العالمين كما ترى
وكل هناء أو عزاء إلى فوت
هو الدهر ميلاد فشغل فمأتم
فذكر كما اتقى الصدى ذاهب الصوت

رحل شوقي عن دنيانا، وقد كان شوقي يخشى الموت، ويفزع منه شديد الفزع، كان يخاف ركوب الطائرة، ويرفض أن يضع ربطة العنق لأنها تذكره بالمشنقة، وقبل أن يقرر عبور الشارع، لأنه كان يشعر أن سيارة ستصدمه في يوم من الأيام، وتحققت نبوءته، وصدمته سيارة فى لبنان، وهو جالس في سيارته، ونجا من الموت بأعجوبة. كما كان يخاف المرض، ولا يرى صيفا أو شتاءً إلا مرتديا ملابسه الكاملة وكان يرتدى الملابس الصوفية فى الشتاء والصيف على السواء. أنتج في أخريات سنوات حياته مسرحياته وأهمها: مصرع كليوباترا، ومجنون ليلى، قمبيز، وعلى بك الكبير في عام 1932. وكان أول الشعراء الذين القوا قصائدهم حفني ناصف، وآخرهم حافظ إبراهيم، ثمّ أنشدت أبيات شوقي بعد ذلك. وحدث أن تنبأ أحد الأدباء: بأنّ هؤلاء الشعراء سيموتون بحسب ترتيب إلقائهم لقصائدهم، وبالفعل كان حفني ناصف أول من فقد من هؤلاء الشعراء ثمّ تتابع رحيلهم بحسب ترتيب إلقاء قصائدهم على قبر الأمام، وكان حافظ آخر من مات، أيقن شوقي أنّ أجله قد قرب فاغتنم وحزن، وسافر إلى الإسكندرية، كأنما يهرب من المصير المحتوم، ولكن هيهات.. فقد مات شوقي في نفس العام الذي مات فيه حافظ، وكان قد نظم قبل وفاته وصية جاء فيها:
ولا تلقوا الصخور على قبري
ألم يكف هما في الحياة حملته
فاحمله بعد الموت صخرًا على صخر

توفى شوقي في 14 أكتوبر 1932 مخلفاً للأمة العربية تراثاً شعرياً خالداً

الأدب النسوي بين البوح والتعرية..

أيها الشعر، أنا لولاك.. يتيم
رسول حمزاتوف
الشعر ترفٌ ليس في متناول الجميع . فالشعر يُشعل بطبعه حرائق غير قابلةٍ للتطويق. تتحاشى الشاعرات الاقتراب منها إنهنّ يراوغن ليس أكثر يرقصن حول نار الشعر كما الغجريات تارة، وأخرى كما الهنود الحمر، على وقع طبول الكلمات من دون أن يجرؤن على الإلقاء بأنفسهن في تلك النار وفاءً للشعر، كما تفعل الأرامل في الهند وفاءً لأزواجهن. لكل من يتساءل سأقول له - ربما ما أكتبه هو حقيقة - وربما ما نكتبه هو نتاج فعل كمثل الذي تقول عنه أحلام مستغانمي:على وهم الأحاسيس، تصفُ شيئاً لم يلمسه أحد، يوجد في مكان غير مرئيّ من الجسد. مُهمّتك جعل القارئ يمتلك وهمَ الإمساك بما لا يُرى، إلقاء القبض على دمعةٍ، أو حفنةٍ من التنهدات. أن تحوّله إلى صائد فراشاتٍ في بساتين الروح.
وهنا يحضرني قول إيكو:
" أعتقد أنه ليس على القاص أو الشاعر (مطلقاً) أن يقدم أية تفسيرات لعمله، فالنص بمثابة آلة تخيلية لإثارة عمليات التفسير..."
(حكايات عن إساءة الفهم)
الشاعرات في الوقت الحاضر في حرج كبير فهن بين المطرقة والسِندان، ومع ذلك نجد عدداً قليلاً من شاعراتنا اللاتي كتبن بالاسم الصريح، وقد صدرت لهن دواوين شعرية تحمل أسماءهن الحقيقة، ومع ذلك يظل غياب الشِّعر النسائي مستمراً.. فإن كتبن بالاسم الصريح يكتبن باستحياء، ويشعرن بالخوف والحياء من نظرة المجتمع، وإن كتبن بالاسم المستعار تعرّضن للسرقات وعدم حفظ الحقوق الأدبية وهدر الإنتاج الأدبي، تقول فاطمة الدوسري: (المشاعر نتاج رباني، والأحاسيس قدرات إلهية، فمن لا يحسن التعامل معها فعليه أن ينأى بنفسه عن الادعاء والانتساب لها، أو التغنّي بها إن كان يظن أن الآخرين لا يعرفون منه ذلك فهو قد أخطأ مرتين مرة عند الادعاء، ومرة عند تفسيره للناس. إن تقييم النصوص الأدبية تم وفق أسس ومقومات المضمون والشكل وليس وفق الجنس أو النوع. ولكن تسمية «الأدب النسوي» هل هي لوصف نتاجها الإبداعي بخصوصية الحضور المؤثر والجاد في مختلف ميادين الأدب مما يفوق المبدعين الذكور؟ أم لإنقاص وثيقة الإبداع لدى المرأة؟ وما مفهوم الأدب النسوي؟- الأدب هو واحد لدى الإنسان مذكراً.كان أو مؤنثاً. ولكن قضية الاختلاف موجودة. فإذا عدنا إلى ما تكتبه المرأة فإننا نجد الخصوصية تكمن في التكوين الفكري لا في الشكل الفني. وهذا يتطلب منّا أن نقرأ نتاج المرأة بشكل جيّد حتى نقف على معاناتها وليس على شكل الكتابة. فالمبدع فنياً لا علاقة له بالذكورة أو الأنوثة وهذا يجعلني أقف عند جزء من السؤال الذي يتعلق بالشك في مقدرة المرأة،أي أن المرأة ليست ناقصة إبداع بدليل أن عدداً كبيراً من اللواتي أبدعن في السياسة والأدب والثقافة ليس على مستوى الوطن العربي حسب إنما على المستوى العالمي لذلك لا ضير في مقولة «الأدب النسوي» لأنّ الأدب وقع إنساني أما الاختلاف كما قلت سابقاً فيتعلق بالمضمون الفكري لكل جنس. هنا تحضرني هذه المقولة للعظيم كازاينتكيس
إن روحي كلَّها صرخة، وأعمالي كلَّها تعقيب على هذه الصرخة.
ليس بصحيح لأن المبدع امرأة كان أو رجلاً لا يقف عند حدود الفن الذي يسهل له العملية الكتابية، والإبداع لا علاقة له بالبسيط أو المعقد ولا الصعب أو السهل. المبدع يكفيه أنه باستطاعته تسجيل نتاجه ويقال عنه إنه مبدع. ولا علاقة للمبدع بالجنس المذكر أو المؤنث.المرأة العربية المثقفة لم تعد داخل القمقم. وإنما أصبحت فرساً لا يلجم. بمعنى آخر. إنّ المرأة سجلت بتواجدها الفاعل رهاناً حضارياً. فنراها اليوم في البيت والشارع وفي الوطن والعالم تسجل أرقاماً لها حضورها ومكانتها.أن تقرأ نصًا لرجل كان أو امرأة، أن تفتح مدارك وعيك جيدًا لمفهوم النص الأدبي، عمقه، بنيته، دوافعه، هو أن ينتهي بك المطاف لا محالة للحكم على النص لا بناءً على جنس كاتب النص وعدا ذلك هو سباحة فعلية في الفراغ والتعمد لولوج عصر الوأد الثقافي
الأدب النسوي بين البوح والتعرية..2


قد اتهمت "فرجينيا وولف" و"سيمون دي بوفوار" الغربَ بأنّه مجتمع أبوي يحرم المرأة من طموحاتها وحقوقها، وأن تعريف المرأة مرتبط بالرجل، فهو "ذات" مُهيمنة، وهي "آخر" هامشي وسلبي. وقد تأثَّرت الحركة الأدبيَّة في العالم العربي بحركة الأدب النسوي الغربيَّة إلى حَدٍّ كبيرٍ، مع اختِلافِ البيئة والثقافة والمعتَقدات، ولكنَّ عددًا كبيرًا من النساء العربيَّات انسَقْنَ في تيَّار الحركة النسائيَّة الغربيَّة، فرأينا مَن تتطرَّف أكثر من الأديبات الغربيَّات، وترى أنَّ مُصطَلح الأدب النسوي نفسه جاء لتَهمِيش المرأة وإبداعها؛ لأنَّه يفصل بينها وبين الرجل، ويُكرِّس الفَوارِق بينهما، ومنهنَّ مَن ذهبَتْ إلى حَدٍّ أبعد في هِجاء المنطقة العربيَّة الموبوءة بالحروب والديكتاتوريَّة والتخلُّف الاجتماعي، وغلبة العقليَّة الدينيَّة المتخلِّفة الداعية إلى طَمْسِ شخصيَّة المرأة خلْف جدرانٍ سَمِيكة من التابوهات والممنوعات والعيب... وغيرها، فَضْلاً عن شُيُوع الإرهاب الأسري، وإرهاب الشارِع، والإرهاب الفكري والسياسي، والديني والإنساني، على كلِّ الأَصعِدة.
ثمّ إنَّ تاريخ المنطقة من وجهة نظرهنَّ مُذكَّرٌ وخشن وذو شعر كثيف!. لقد جعَلَها الإسلام جزءًا من نفْس الرجل، ومكملاً له، ومحورًا لأسرةٍ، وألزَمَ الرجل برعايتها وحمايتها، وتربيتها وتنشِئتها، والحِفاظ على كرامَتِها وإنسانيَّتها؛
قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء : 1].
ومع ذلك فإنَّ هناك أَدِيبات عربيَّات يَرفُضنَ فِكرة الأدب النسوي من منظور أنَّ الأدبَ أدبٌ سواء كتَبَه رجلٌ أم امرأة؛ ولذلك لا يُقسِّمن الأدب إلى رجولي ونسائي. وتُشِير "فريدة النقَّاش" صاحِبة هذا الرأي إلى أنَّ "نازك الملائكة "كانت أوَّل مَن أبدَعَ قصيدةَ التفعيلة في الشِّعر، كما تُشِير فريدة إلى أنَّ تعبير الأدب النسوي يُذكِّرها بغرفة الحريم. وعلى كُلٍّ يُمكِن القول: إنَّ الأدب الذي تُنتِجه المرأة ثلاثة أنواع:
1- أدب إنساني.
2- أدب تُحارِب به الرجل الذي يُهمِّشها. أدب تخدم به جِنسَها، وتَعزِل من خِلاله نفسَها عن العالَم الإنساني الرَّحب.
الثقافي.
3- أدب تخدم  به جنسها، وتَعزِل من خِلاله نفسَها عن العالَم الإنساني الرَّحب.
للآن وللقادم لا أملك ولن أملك أية خلفية تفسر ذاك الإنغلاق والغموض المميت أحيانا الذي يكتنف "لماذا أكتب؟! ولم هذا كاتب أو كاتبة دون ذاك"؟!، فكان من المستحيل إذن، بل من الخطورة المخيفة التنبؤ باستنتاجات أكانت نابعة من تجربة فردية شخصية أو من تفاعلي بالمحيط، إلا أنّه صار بإمكاني تخفيف وطاة ذاك الغموض الشرس والساحر على الأقل لي بنعته كتفسير وهو أنّ الكتابة لعنة لعينة، هاجس مرهق، تصيب من تشتهي دون حسبان، هي حاجة لا تطاق تيقظك بإصرار طفل رضيع، دون الانتباه. أننا في منتصف الليل، وأننا ربما مدمرين نفسيا وجسديا، أو في سهرة مع العائلة، الأصدقاء، مؤتمر أو في العمل، فقط يولد فيك فجأة حنين للورقة وللقلم وكأنّما لم ترهما منذ دهر. ذاك الاشتياق الغريب. إنّ مدى الملاحقة الفعلية للعقلية الذكورية لنصوصنا ومدى شراستها وخبثها وهي تحاول تمويهنا عن الحقيقة التي نراها ونتنفسها والتي تلعب في بطوننا، وجعلنا نسرد نصوص مغايرة تماما لا تشبهنا، تشبهم. أو نعاقب بترك أقلامنا مفتوحة ليلتهما الجفاف ونضطر للموت. وليس سهلا أبدًا الاعتراف بمرونة التمرد وقدرته على وضعنا من المحاولة الأولى على طريق الحرية، فنتمزق ليل نهار بين أن نكون أو لا نكون، و يصير وجعنا عضوا آخر نكتسبه بعد اكتمال الخلق.. نحن فقط دون غيرنا، أن هنالك بعض الكاتبات أيضا تتم مراقبة نصوصهم من بداية الإحساس بروحه فيهن، فتظل الأعين ملاحقة لعملية ولادته وبعدها فحصه بدقة واحتراز للتأكد من شرف النص. بالنسبة للأدب النسوي بعمان هناك حركة نسائية رائعة وعندنا أسماء في القصة القصيرة والشعر وهناك أسماء بدأت تلوح في عالم الرواية، وهذه الأسماء تنافس مثيلاتها العربية والخارجية ولكن الملاحظ هو اختفاء بعض الأسماء اللامعة فجأة لأسباب أو لأخرى وهذا يؤثر على الحركة الأدبية النسائية. لكن هناك حراك كبير على مستوى الأدب الأنثوي وأراه فعالا وإن اختلفت مقاييس نجاحه. وما جعلها تكتب حول الأدب النسائي، هو رغبتها معالجة الظاهرة من خلال دراسة أكاديمية، ذلك أنّ تحصين الظواهر الأدبيّة والمعرفية والثقافية علميًا هو السبيل الوحيد لعدم انفلات الموضوعي منها، ولأنّ دراسة الأدب النسائي خارج البحث العلمي قد يعرضه إلى سياقات ليس لها علاقة بالأدب، فيضيع معها منطق الأدب، ولهذا لا تنتصر للمرأة من باب التعاطف، وما دفعني للانتباه إلى خصوصية تشمل اللغة والبناء والوصف، ووضعية المرأة في كثير من الكتابات تحضر باعتبارها ذاتا وليست موضوعا وهو حضور أثر في شكل النص، وطبيعة النظر إلى المكان والزمن، وغير ذلك من الملاحظات التي تمّ تطويرها في الكتاب النقدي. لتستنتج كون الأدب النسائي ليس هو كل أدب تكتبه المرأة، بل هو الأدب الذي تكتبه بعض النساء وتنتج من خلاله مفاهيم جديدة ودلالات جديدة لمفاهيم متداولة. ومن شأن هذا التخريج المؤسس على تحليل متن كبير من الروايات النسائية أن يجعل "الأدب النسوي" نوعًا أدبيّا يعبر عن تطوّر الأدب من جهة، لكون الجديد الذي تحمله كتابة المرأة يغني الأدب لغة وبناء ومنطقا، ومن جهة ثانية يطور نظرتنا للمرأة الكاتبة باعتبارها صوتًا منتجًا للاختلاف الإيجابي من باب موقعها، والذي من شأنه أن يغني الحوار ويدعم الاختلاف ويؤسس لمفهوم الشراكة في من خلال تمثلات رمزية تنتجها المرأة والرجل بمستويات مختلفة، ولكن الإنسانية في حاجة إليهما من أجل خلق التوازن الإنساني. الأدب النسائي هو ما تقترحه المرأة في أدبها؛ ما تقترحه من مفاهيم جديدة تغني بها الحوار، ليس الأدب النسائي تكرار واجترار لدلالات المفاهيم المألوفة. لأننا نعيش في زمن المفاهيم التي نحيا بها..  وأؤكد في هذا الصدد ضرورة إدخال الخطاب النسائي إلى الجامعة، وتكوين جيل قادر على تقبل الآخر باعتباره موقعًا وإمكانية لاقتراح مفاهيم جديدة.  
وأخيرا، فخَلفَ أعتاب الحروف.. نرسم عوالمنا التي نغزلها من وحي اللحظةِ والحلمِ..
لَنْ تَنفَكَ رائِحة الحب
في إغواءِ الحروفِ
وجَعلهْا تُحيكُ أحرفَ النبضات عنوةِ في كُل سَطر
أُسْدِلَ السّتارْ, وأسبحُ مع الموسيقى في المَدى, ترسمُ ألواناً ولوحات في تلكَ العَتْمَة
نحاول أن نتلقف ريشةً علّقها طائر الشّعر في الرّيح
محتملٌ أن نطير بها !!