أمير الشعراء..أحمد شوقي
سجا الليل حتى هاج لي والهوى وما البيد إلا الليل والشعر والحبملأت سماء البيد عشقًا وأرضها وحملت وحدي ذلك العشق يا رب
ألمّ على أبيات ليلى بيَ الهوى وما غيرَ أبياتي دليل ولا ركب
وباتت خيامي خطوةً من خيامها فلم يشفني منها جوار ولا قرب...
يقول أحمد شوقي أمير الشعراء عن أصله: إنه عربي، وتركي، ويوناني، وشركسي، أمَّا ولادته فكانت في مصر، أي إنه سليلُ أصول أربعة، وقد جعله هذا الاختلاط دائم التأرجح بين العرب والأتراك، وبين الحاكم والمحكوم، أمَّا ثقافته فكانت عربيَّة وتركيَّة وفرنسيَّة، وقد استطاع الاطلاع على الشعر العربي والتركي والأوربي، مما جعله يستفيد من مختلف التيارات الشعريَّة..
ولد شوقي في القاهرة عام 1868 في أسرة موسرة متصلة بقصر الخديوي، أخذته جدته لأمه من المهد، وكفلته لوالديه، وحين بلغ الرابعة من عمره، أدخل كتاب الشيخ صالح– بحي السيدة زينب – ثم مدرسة المبتديان الابتدائية، فالمدرسة التجهيزية (الثانوية) حيث حصل على المجانية كمكافأة على تفوقه، وحين أتمّ دراسته الثانوية دخل مدرسة الحقوق، وبعد أن درس بها عامين حصل بعدها على الشهادة النهائية في الترجمة. وما أن نال شوقي شهادته حتى عينه الخديوي، ثمّ أوفده بعد عام لدراسة الحقوق في فرنسا، حيث أقام فيها ثلاثة أعوام، حصل بعدها على الشهادة النهائية عام 1893. أمر الخديوي شوقي بأن يبقى في باريس ستة أشهر أخرى للإطلاع على ثقافتها وفنونها. وعاد شوقي إلى مصر أوائل سنة 1894 فضمه توفيق إلى حاشيته. سافر إلى جنيف ممثلاً لمصر في مؤتمر المستشرقين. ولما مات توفيق وولي عباس كان شوقي شاعره المقرب وأنيس مجلسه ورفيق رحلاته، وأصدر الجزء الأول من الشوقيات الذي يحمل تاريخ سنة 1898 – وتاريخ صدوره الحقيقي سنة 1890.. نفاه الإنجليز إلى الأندلس سنة 1914 بعد أن اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى، وفرض الإنجليز حمايتهم على مصر 1920. عاد من المنفى في أوائل سنة 1920 وبويع أميراً للشعراء سنة 1927. وفي سنة 1927م - والتي تمَّ فيها إعادة طبع ديوانه "الشوقيات"- بايعه على إمارة الشعر شعراء العرب؛ مثل: حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وشبلي الملاط، وأمين نخلة.. وغيرهم، ويومَها ألقى حافظ إبراهيم القصيدة التي جاء فيها:
أميرَ القوافي قدْ أتيتُ مبايعًا
وَهَذِي وُفُودُ الشرقِ قد بايعتْ معِي
عندما سمحت السلطات الإنجليزية للشاعر أحمد شوقي بالعودة إلى مصر في سنة 1920، أصبح بعدها شاعر الشعب، بعدما كان شاعر السلالة الخديوية.
وتكمن أهمية شوقي في أنّه جاء بعد الشاعر المصري محمود سامي البارودي (1839- 1904)، حاملاً مشعل التجديد عند تخوم مملكة الشعر العربي المعاصر، معبِّرًا عن تجربته الخاصَّة، وتجربة عصره، ممهِّدًا الطريق أمام شعراء العرب الجُدُدِ، الذين ساهموا مساهمة فعَّالة في تطوير الشعر العربي:
لقد لامني يا هندُ في الحب لائمٌ
مُحِبٌّ إذا عُدَّ الصِّحابُ حبيبُ
فما هو بالواشي على مذهب الهوى
ولا هو في شَرع الوداد مُريب
وصفتُ له مَن أَنتِ، ثم جرى لنا
حديثٌ يَهُمُّ العاشقين عجيب
وقلت له: صبراً ؛ فكلُّ أَخي هَوى
على يَدِ مَنْ يهْوى غداً سيتوب
ويُلاحظ بعضنا أنّ أمير الشعراء أحمد شوقي يربط بين أركان الإسلام والخليفة العثماني، فكلَّما تمسك الحاكم بالإسلام، كانت قوَّته ونصره، فشخص الخليفة عنده يبدو رجل دين ودولة في آن واحد، قادر على إجادة التدبير السياسي للحكم، ومحقِّقًا المثل الأعلى والقدوة الطيبة لشعبه من خلال العبادات وأداء الفرائض وإقامة الشعائر؛ ولذا نلاحظ أنّ شعر شوقي المدحي عبارة عن لوحات تصويرية، تجمع بين القيادة والعبادة، ولم يكن نجاح الخليفة في قيادته إلاَّ نتيجةً طبيعيَّة لتمسكه بالشعائر؛ بل إن تبني قضايا الدين والدفاع عنها تتمثَّل في قدرة الخليفة على أداء هذه الشعائر والدفاع عن الإسلام. غير أنَّ إسلاميّات أحمد شوقي تظهر أكثر في المدائح النبويَّة، تلك المدائح التي كانت تطول حتى تصل إلى (كمٍّ) شعري هائل، وتعود أهمِّيَّة المدائح بوجه خاصٍّ إلى أنّها كانت تتِّجه إلى الرسول بكل ما في شخصيته من عظمة وقدوة حسنة ورجاء منشود؛ لذلك لم تكن المدائح تركِّز على الجانب الديني وحده، وإنما على الجانب الآخر السياسي على اعتبار أنَّ الرسول ممثِّل الدنيا والدين، وعلى ذلك، فإن مديح الرسول - فضلاً عن تعظيمه- كان يحتوي على كثير من أمور الحياة والحكم، إنه حين يُشير في إحدى هذه القصائد إلى ميلاد الرسول والآيات التي وضحت في الكون حينئذ، يضيف إلى ذلك كله معانيَ جديدة.
ويلاحظ أن محاكاة شوقي للبوصيري تصل إلى حدٍّ بعيد، إلى درجة التوسُّع في خصال الرسول وتبيين مكانته عند الله بكل فخر وخير، كما يتبعه في تسلسل الأحداث للوصول منها إلى العبرة، وقد بدا واضحًا اهتمامه خاصَّة بتشبيه الرسول بالعلم وإنْ بدا التشبيه عند شوقي يتَّخذ شكل المقتدي به، وشبَّهه بالبدر في شكل أكثر وضوحًا، لنقرأ:
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكُهُ
والرسل في المسجد الأقصى على قدمِ
لما خطرت به التفُّوا بسيِّدهم
كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
أمَّا (الهمزية النبوية) التي يقول فيها شوقي:
وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ
وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ
الروحُ وَالمَلأُ المَلائِكُ حَولَهُ
لِلدينِ وَالدُنيا بِهِ بُشَراءُ
في هذه القصيدة يصل أحمد شوقي إلى درجة عالية في المدح النبوي، ويُلاحَظ أنَّ البوصيري وشوقي يتَّفقان في الأغراض، والاتفاق هنا في وحدة الموضوع لا يخفى؛ ولكن شوقي يختلف عن البوصيري بمثل ما اختلف عنه في أشياء أخرى إذ يختصّ بالحديث المستفيض حول خصائص الإسلام، وحكمه ومنهجه في سبيل الإصلاح، ولا بأس أنَّ محاكاة شوقي للبوصيري تُجاوز المديح إلى الصور والموسيقى والوزن والقافية والعبارات والتراكيب، كذلك في الأغراض وفي التأثُّر بالقرآن، وما إلى ذلك من صور المدح والشفاعة، وهذه المعاني لا تكثر في (البردة) و(الهمزية) فقط، بل تمتدُّ إلى عديد من قصائده الأخرى في هذا المجال، وهو ما يتأكَّد أكثر في شعر المناسبات في الإسلام. وعندما مات الإمام الشيخ محمد عبده سنة 1905 وقف على القبر سبعة من الشعراء يلقون قصائدهم، أرسل شوقي ثلاثة أبيات لتلقى على قبر الإمام، يقول فيها:
مفسر أي الله بالأمس بيننا
قم اليوم فسّر للورى آية الموت
رحمت مصير العالمين كما ترى
وكل هناء أو عزاء إلى فوت
هو الدهر ميلاد فشغل فمأتم
فذكر كما اتقى الصدى ذاهب الصوت
رحل شوقي عن دنيانا، وقد كان شوقي يخشى الموت، ويفزع منه شديد الفزع، كان يخاف ركوب الطائرة، ويرفض أن يضع ربطة العنق لأنها تذكره بالمشنقة، وقبل أن يقرر عبور الشارع، لأنه كان يشعر أن سيارة ستصدمه في يوم من الأيام، وتحققت نبوءته، وصدمته سيارة فى لبنان، وهو جالس في سيارته، ونجا من الموت بأعجوبة. كما كان يخاف المرض، ولا يرى صيفا أو شتاءً إلا مرتديا ملابسه الكاملة وكان يرتدى الملابس الصوفية فى الشتاء والصيف على السواء. أنتج في أخريات سنوات حياته مسرحياته وأهمها: مصرع كليوباترا، ومجنون ليلى، قمبيز، وعلى بك الكبير في عام 1932. وكان أول الشعراء الذين القوا قصائدهم حفني ناصف، وآخرهم حافظ إبراهيم، ثمّ أنشدت أبيات شوقي بعد ذلك. وحدث أن تنبأ أحد الأدباء: بأنّ هؤلاء الشعراء سيموتون بحسب ترتيب إلقائهم لقصائدهم، وبالفعل كان حفني ناصف أول من فقد من هؤلاء الشعراء ثمّ تتابع رحيلهم بحسب ترتيب إلقاء قصائدهم على قبر الأمام، وكان حافظ آخر من مات، أيقن شوقي أنّ أجله قد قرب فاغتنم وحزن، وسافر إلى الإسكندرية، كأنما يهرب من المصير المحتوم، ولكن هيهات.. فقد مات شوقي في نفس العام الذي مات فيه حافظ، وكان قد نظم قبل وفاته وصية جاء فيها:
ولا تلقوا الصخور على قبري
ألم يكف هما في الحياة حملته
فاحمله بعد الموت صخرًا على صخر
توفى شوقي في 14 أكتوبر 1932 مخلفاً للأمة العربية تراثاً شعرياً خالداً